الدولة الوطنية (1/2): كيانات بوجه التطرّف الديني وفلسطين

مدة القراءة 9 د

عند كلّ مفصل تاريخي، تتكشّف هشاشة “الدولة” في البلدان العربية. كلّ أفكار الدولة وتعريفاتها السياسية لم تنجح. الطارىء المستجدّ على فكرة الدولة، خصوصاً على مستوى الدول العربية، كان في اشتقاق تعبير سياسي هو “الدولة الوطنية”. كان التعريف من خارج السياق السياسي العامّ لعطب الدولة عند العرب بوصفها لا تكون إلّا بالإرادة الفردية، على ما يقول هيغل. كلّ ما فعله هذا “الاصطلاح السياسي” هو تذرير العروبة كوحدة سياسية خاضت غمارها أيديولوجيات ورموز شخصية.

أبعد من ذلك، حوّلتها إلى عنوان سياسي مغفل التفاصيل، ذلك أنّها فشلت في تثبيت دعائمها إلّا بالقوّة العارية. مشكلة واحدة بقيت تواجهها ألا وهي تعارُضها مع الفقه الإسلامي. القومية ذوت مع سقوط موجتها السياسية و”الثوريّة”. لفظت أنفاسها الأخيرة مع سقوط بيروت عام 1982 تحت الاحتلال الإسرائيلي، علاوة على سلسلة الهزائم التي بدأت عام 1967. لكنّها عادت لتنهض من بوابة الازدهار، في دول حافظت على رفاهية شعوبها، وتدعم بعض جيرانها. ويقود هذه “الدولة” نموذج الدولة السعودية الناهضة في السنوات الأخيرة. وكذلك دولة الإمارات.

يتناول هذا الملفّ على حلقتين “الدولة الوطنية” العربية، أسباب “انهيار” الدول التي نخرتها الميليشيات. والحلقة الأولى تناقش نشوء هذه الدول، على يد الاستعمار، بلا أيّ روابط تجمع شعوبها…

 

 

لا تخرج الدول الوطنية الحديثة في الوطن العربي من أزمة حتى تدخل في أزمة أخرى. وهي عوض أن تقوى ويشتدّ عودها وتتثبّت دعائمها وأركانها وتتطوّر وظائفها وأدوارها، على مرّ الأزمات، تضعف وتضمحلّ وتتلاشى. حتى لتبدو في بعض البلدان العربية أثراً بعد عين.

في الأزمة الراهنة، وعنوانها الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة المندلعة منذ سبعة أشهر تقريباً، تكاد لا ترى أثراً للدولة في البلدان التي تزعم شريحة واسعة من أهلها وأحزاب وقوى رئيسة فيها التصدّي للعدوان الإسرائيلي على أهل غزّة. وهي بغالبيّتها بلدان تدور في فلك إيران، وتنضوي ضمن ما اصطُلح على تسميته بـ”محور المقاومة والممانعة”.

الطارىء المستجدّ على فكرة الدولة، خصوصاً على مستوى الدول العربية، كان في اشتقاق تعبير سياسي هو “الدولة الوطنية”

في الحرب القائمة على قطاع غزة اليوم، طرفان رئيسان لا ثالث لهما:

– دولة إسرائيل تعضدها وتدعمها الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا ومؤخراً ألمانيا.

– تقابلها حركة حماس مدعومةً ومسنودةً بفصائل الحشد الشعبي في العراق. والحزب بشكل رئيسي والجماعة الإسلامية وبعض الفصائل الفلسطينية في لبنان. وفصائل وقوى في سوريا لم تعُد تُعرف هويّتها ولا انتماؤها ولا تبعيّتها. وجماعة الحوثيين في اليمن.

خلف هذه السلسلة تستتر إيران حيناً، وتطلّ برأسها حيناً آخر. لا دول في بلدان “الممانعة” أو “المواجهة”. إذاً هي حرب بين دول – أمم، وبين أحزاب / فصائل / حركات مقاومة – دول. لا بين دول ودول.

ليست الحرب القائمة المحطّة الأولى التي كشفت هشاشة الدول الوطنية الحديثة المزعومة القائمة في العالم العربي. إذ سبقتها محطّات كثيرة إلى كشف هذه الهشاشة وهذا الفشل لمشروع بناء دول وطنية حديثة في بعض “الأقطار” أو البلدان العربية.

ليس هذا الفشل وليد اللحظة. ولا هو حدث فجائي. بل هو فشل تاريخي مرّ بمراحل عديدة منذ قيام دول في البلدان التي كانت تنضوي تحت عباءة الخلافة العثمانية. هو فشل بتاريخ عريق عمره اليوم أكثر من قرن.

جذور الفشل في البناء

يكمن السبب الرئيس في فشل بناء الدول الوطنية في كيفية نشأتها والظروف التي أحاطت بقيامها. كان وجودها في الوطن العربي مصطنعاً على ما يذهب الدكتور وضّاح شرارة في كتابه “حول بعض مشكلات الدولة في الثقافة والمجتمع العربيَّين”، ولذلك كانت دولةً هامشيّةً منفصلةً عن المجتمع ولا تمثّله.

هذا نتيجة طبيعية لظروف ولادتها ونشأتها. فقد وُلدت ولادةً قيصريّة بإرادة استعمارية من دون أيّ أساس منطقي جغرافي أو تاريخي أو اجتماعي أو ثقافي كما يذكر الدكتور سمير أمين في كتابه “المغرب العربي المعاصر”. لذلك لم تمثّل وحدةً للضبط الاجتماعيّ والولاء السياسيّ والإشباع الاقتصاديّ. عليه تقوّضت شرعيّتها، وضعف فيها الولاء للمؤسّسات والقانون. وهو ما جعلها تعجز عن إدارة المجتمع بشكل رشيد. كان الأسوأ هو ميلها العارم إلى الولاءات الجماعية على حساب الدولة وحتى الفردية.

دخل العالم العربي القرن العشرين وهو تحت عباءة الدولة العثمانية: دولة الخلافة. وكان منذ قرون قبل ذلك ولايات وإمارات تخضع مباشرةً أو مواربةً للخليفة العثماني

ما سبق لا ينفي نهائيّاً وجود كيانات ما في تلك الدول المصطنعة والمفروضة فرضاً. يؤكّد الدكتور إيليا حريق في كتابه “نشوء نظام الدولة في الوطن العربي”، أنّ غالبية الدول العربية القائمة حالياً لها جذورها التاريخية وكانت فيها على الدوام مجتمعات تاريخية وكان لها أصل محلّي ونواة جغرافية. وعليه هي دول قديمة. أبرز الأمثلة على هذا اليمن والمغرب ومصر وتونس والجزائر.

ماتت الخلافة… عاشت الدّولة

دخل العالم العربي القرن العشرين وهو تحت عباءة الدولة العثمانية: دولة الخلافة. وكان منذ قرون قبل ذلك ولايات وإمارات تخضع مباشرةً أو مواربةً للخليفة العثماني. يستمدّ الولاة والأمراء شرعيّتهم من شرعيّته، وشرعيّته دينية مستمدّة من نظام الخلافة الذي نشأ بُعيد وفاة النبي محمد. والخليفة مصطلح فضفاض اتّسع وضاق مع مرور الزمن وفقاً لقوّة الحاكم – الخليفة أو الأسرة الحاكمة. هو تارةً خليفة النبي، وطوراً خليفة الله.

في الحالين هو حاكم ديني – دنيوي. وعليه كان الحكم في العالم العربي والإسلامي، حكماً ثيوقراطياً، شرعيّته مستمدّة من الله لا من الشعب أو الشعوب. من السماء لا من الأرض. من الشريعة لا من الدستور والقوانين. وكان الخليفة يتبوّأ منصب الخلافة تارةً عبر الشورى، وتارةً عبر الوراثة، وطوراً عبر القوّة. عام 1924، أُلغيت الخلافة في تركيا كنظام حكم شمل المنطقة العربية كلّها منذ قرون طويلة.

بعد الحرب العالمية الأولى، تقاسمت الدول الكبرى تركة “الرجل المريض”، أي الخلافة العثمانية التي هُزمت في الحرب. وكانت علامات هزيمتها واضمحلالها قد ظهرت للعيان قبل ذلك بزمن. هكذا وقعت المنطقة التي كانت تخضع للعثمانيين تحت سيطرة “الحلفاء” الأوروبيين الذين انتصروا في الحرب. تقاسم الحلفاء المنطقة. وقعت مناطق في دائرة النفوذ البريطاني، وأخرى في دائرة النفوذ الفرنسي.

بعد الحرب العالمية الأولى، تقاسمت الدول الكبرى تركة “الرجل المريض”، أي الخلافة العثمانية التي هُزمت في الحرب

حكم “الحلفاء” المنطقة، وقوننوا وجودهم فيها باسم “الانتداب”. لاستمرار هيمنتهم عليها، رسموا حدوداً لتلك المناطق وأقاموا فيها دولاً. أي أنّهم صدّروا إليها نموذج الحكم الذي وصلت إليه أوروبا بعد قرون طويلة من الإمبراطوريات والحروب الدينية وغير الدينية. استحالت المنطقة دولاً متجاورة تفصل بينها حدود، ونزاعات حدودية وعداوات وقوانين دولية. لكنّها دول رُسمت على الورق بالقلم والمسطرة. وليست دولاً نتجت عن تجارب سياسية أو عن تبلور هويّة وطنية، أو عن صيرورة تاريخية. نموذج توصّلت إليه أوروبا قبل ثلاثة قرون ونيّف، وأقرّته في بلدانها، ثمّ فرضته على الدول التي استعمرتها لاحقاً.

لم تراعِ الدول المستعمِرة خصوصيّة المناطق المستعمَرة من الناحية القومية أو السكّانية، ولا من الناحية اللغوية أو الدينية أو الثقافية. حتى إنّها لم تراعِ الخصائص الجغرافية ولا التاريخ. قرّرت هكذا، ولحماية مصالحها، أنّ الرقعة الجغرافية هذه هي الدولة السورية، وتلك الدولة اللبنانية، وهناك العراق وهنالك الأردن… إلخ، وأخيراً استجلبت شعباً بلا أرض وهجّرت شعباً من أرضه، وأقامت دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية.

… وإذا الموءودة سُئلت

وعليه، لم تقُم الدول في البلدان العربية بعد تجارب حكم عديدة، ولا بناءً على عقود اجتماعية، ولا بعد أحداث تاريخية أو حروب بلورت هويّةً وطنيةً أو قوميةً مشتركةً، ولا نتجت عن إرادة سكّانية. كذلك لم تكن تلك الدول كنايةً عن أمم مستقلّة لها روابط لغوية ودينية وجغرافيّة واحدة تاريخياً.

الدولة فعليّاً هي نموذج أوروبي توصّلت إليه أوروبا، بعد عصر الإمبراطوريات والحروب الدينية والإقطاعات، وحين احتلّت العالم العربي، فرضت نموذجها عليه

الدولة فعليّاً هي نموذج أوروبي توصّلت إليه أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بعد عصر الإمبراطوريات والحروب الدينية والإقطاعات، وحين احتلّت العالم العربي، فرضت نموذجها عليه. ولو قامت الدولة في العالم العربي مطلع القرن العشرين على الأسس التي قامت عليها في الغرب، لربّما كانت دولةً عربيةً واحدةً تفوق مساحتها مساحة الدول – الأمم الأوروبية مجتمعةً. وهذا ما دار في خلد شريحة واسعة من العرب يوم تزعّمهم الشريف حسين ونجله فيصل وانطلقت الثورة العربية من الحجاز وأعلنت قيام الحكومة العربية في سوريا عام 1919 وأتى العرب مبايعين من مختلف الأقطار العربية.

لكنّ القول الفصل كان للحلفاء. لاتفاقية سايكس – بيكو التي قسمت الأراضي بين فرنسا وبريطانيا. وُئد مشروع الدولة العربية الوليدة وباءت مشاريع العرب بالفشل الذريع. استحال مشروع الشريف حسين إمارات وممالك عربية رسم حدودها الانتدابان البريطاني والفرنسي. واندفعت أقلّيات دينية تنشد دولاً مستقلّةً لها وكيانات وحدوداً. هكذا استحالت الخلافة العثمانية دولاً وممالك وإمارات مستقلّةً بعضها عن بعض: العراق، الأردن، سوريا، لبنان، فلسطين… إلخ.

إقرأ أيضاً: الحرب الأهليّة… لحظة لم تغادر

هذه الدول أناط بها المستعمرون مهمّتين أساسيّتين: أن تخرج من عباءة الخلافة، وتالياً ألّا تكون جزءاً أو إقليماً أو ولايةً في الأمّة الإسلامية، وأن تكون على نقيض الدولة القومية العربية. أراد المستعمرون لسكّان الدول العربية الجديدة هويّةً جديدةً لا هي عربية قوميّاً، ولا هي إسلامية دينياً. شكّل هذا التحدّي الأوّل والأبرز لهذه الدول، وقد وقعت غالبيّتها في الفخّ.

في الحلقة الثانية غداً:

العلم الفلسطيني: هل سرقته إيران… أم ألقته “الدولة الوطنية”؟

 

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…