في ذاكرة لبنان السياسية، يرمز تعبير “القمصان السود” إلى الميليشا المسلّحة وإلى السطوة المسلّحة ووهج سلاح حزب الله وتدخّله في الحياة السياسية، وكيف أنّه فرض إسقاط حكومة وتعيين حكومات. من هناك جاءت فكرة “القمصان البيض”، وهي مجموعة فرسان من أطباء لبنانيين يريدون لأعمالهم أن تكون نقيض كلّ هذا.
100 طبيب لبناني وجدوا أنّ أحد أبواب مكافحة الفساد هو في محاولة “صيانة” صحّة اللبنانيين. وهكذا دمجوا شيئاً من العمل السياسي مع الشأن الطبي. خصوصاً بعدما تحوّل المجال الصحّي إلى أحد محرّكات السياسة حول العالم، منذ انتشار جائحة كورونا قبل عام.
تداعى هؤلاء إلى تأسيس “القمصان البيض” خلال ثورة 17 تشرين. جمعتهم الثورة أوّلاً، ثم التخصص الطبي. جاؤوا من مختلف مستشفيات لبنان الجامعية. لكنّ المجلس التأسيسي ضمّ 5 أطباء هم: جورج غانم، سليم ناصر، هادي مراد، فادي حداد، غبريال معكرون.
100 طبيب لبناني وجدوا أنّ أحد أبواب مكافحة الفساد هو في محاولة “صيانة” صحّة اللبنانيين. وهكذا دمجوا شيئاً من العمل السياسي مع الشأن الطبي. خصوصاً بعدما تحوّل المجال الصحّي إلى أحد محرّكات السياسة حول العالم، منذ انتشار جائحة كورونا قبل عام
سرعان ما بدأ هؤلاء نشاطهم مع بداية أزمة كورونا على مستوى لبنان، فأطلقوا حملة #انضب_ببيتك في آذار عبر برنامج “صار الوقت” الذي يقدمه الإعلامي مارسيل غانم على شاشة mtv. وجدوا أنفسهم مضطرّين لتعبئة فراغ الدولة وإهمال وزارة الصحّة، خصوصاً بعد السماح لطائرتين منكوبتين من إيطاليا وإيران بالهبوط في مطار الرئيس رفيق الحريري، حين كنّا بلا خطّة وقائية. وكانوا على تواصل دائم مع عضو لجنة كورونا الحكومية الاختصاصي في الأمراض المعدية والجرثومية الدكتور جاك مخباط. وظلّوا يمارسون ضغوطاً إعلامية على وزارة الصحّة للتشدّد في تطبيق إجراءات السلامة العامة.
أراد مؤسّسو “القمصان البيض” إنشاء “وزارة ظلّ” لوزارة الصحّة، التي كان يديرها وزير لحزب الله. وسعوا إلى أن يكونوا هيئة ناظمة لملفّ الصحة في مواجهة “سرطان الفساد”، كما يقول الدكتور مراد.
لا ينفي مراد أنّ 100 طبيب يجمعهم ما يشبه المشروع السياسي، أو التوافق على عناوين سياسية محدّدة، لكنّ الطبّ هو الأساس: “يجمعنا الحلم بدولة لاطائفية”. لكنّهم يدخلون إلى السياسة من باب الطبّ، وليس من باب المواقف السياسية: “نحن نواجه الفساد الصحّي” يقول الدكتور سليم ناصر لـ”أساس”، موضحاً أنّ “السلطة تضرّ بالمواطنين وهي سلطة فاسدة ومجرمة، ونحن كأطباء هاجسنا الصحّة، لكنّ الصحة ليست ألا يكون المواطن مريضاً، وإنّما أن يتمتّع بصحّة جيدة، جسدياً واجتماعياً”.
بعد توسّع دائرة الاحتجاجات وتكثيف التظاهرات بداية العام الماضي، تعرّض المتظاهرون لإطلاق نار، وفقأت القوى الأمنية عيون بعضهم، وكسّرت عظام العشرات منهم. من هناك دخل الأطباء إلى توثيق الإصابات. ثم أجبروا وزارة الصحّة، بالضغط الإعلامي، وبعد مؤتمر صحافي في 8 آب، على معالجة هؤلاء بعدما كانت ترفض معالجتهم على نفقة الدولة.
وفي 13 آب وثّق “القمصان البيض” عدداً كبيراً من الانتهاكات التي تعرّض لها المتظاهرون، بالصور والأدلّة والوثائق الطبية، وأوصلوا صوتهم إلى “هيومن رايتس ووتش” والصليب الأحمر الدولي، وانتقلوا إلى متابعة الملفّ قضائياً مع القاضي جورج عقيص.
راح الاسم يكبر ويتوسّع. وأخذ الإعلام يعطيهم مساحاتٍ أكبر، وراح المتظاهرون يطلبونهم والمواطنون يحاولون التواصل معهم من أجل ملفات متعدّدة، ربما يكون أبرزها إيصال معلومات إلى هؤلاء الأطباء عن سعي وزارة الصحّة إلى استبدال دواء السرطان السويسري بدواء إيراني اسمه LENOMA وهو غير مسجّل لدى المنظمات الدولية المعنية.
بات على “القمصان البيض” مسؤولياتٍ أكبر مما ظنّوا في بداية حركتهم. وقفوا بوجه محاولة إدخال أدوية إيرانية غير موثوقة علمياً ولا صناعياً، على المستوى العلمي الدولي. واستُدعي الدكتور مراد إلى القضاء للاستماع إلى أقواله: “قدّمتُ أدلّتي وبراهيني. فنحن نواجه وزارة الصحّة بالأدلة، فنربكها بالصوت العلمي والبحث المدعّم بالبراهين”.
وهم دخلوا أيضاً إلى ملف تفجير مرفأ بيروت. شكّلوا مجموعات منهم شاركت في معالجة المصابين في المستشفيات وعلى مداخلها وفي مواقف السيارات التي كانت تعجّ بالجرحى وتعاني من نقص في الأطباء والممرّضين. يعتبرون أنّ دورهم في متابعة تفجير مرفأ بيروت هو في مواجهة “مجرمي الأمونيوم ومجرمي الحرب”. هذا التوصيف نجده يتكرّر أكثر من مرّة عبر حسابات المجموعة على مواقع التواصل الاجتماعي.
بات على “القمصان البيض” مسؤولياتٍ أكبر مما ظنّوا في بداية حركتهم. وقفوا بوجه محاولة إدخال أدوية إيرانية غير موثوقة علمياً ولا صناعياً، على المستوى العلمي الدولي
من الانتهاكات، انتقلت المجموعة لتتصدّى في ملفّ تهريب الدواء وترشيد الدعم، فاقترحت آلية علمية لترشيد الدعم ومنع التهريب. كما كشفت عن تهريب أدوية وتخزينها. ما زاد من أعدائهم، ليصيروا متنوّعين بين المهرّبين ومافيات الأدوية وكارتيلات التخزين والتلاعب بالأسعار، وصولاً إلى مواجهة السلطة وقواها الأمنية والحزبية.
لا ينفي الدكتور ناصر تعرّضه والزملاء لضغوطات وتهديدات إن من جهات حزبية أو رسمية، مؤكداً أنّ هذه المخاطر لن تدفعهم إلى التراجع: “بعد تفجير 4 آب الذي استهدف الآمنين في بيوتهم، من ماذا سنخاف؟ لا خيار لنا إلا التصدّي. فهم إن لم يقتلوننا بشكل مباشر سيقتلوننا بشكل غير مباشر”.
يشرح عضو المجلس التأسيسي للمجموعة الدكتور سليم ناصر لـ”أساس”: “هناك مرحلة جامعية اسمها القمصان البيض، نحتفل خلالها بالطلاب حين يتسّمون قمصانهم البيضاء للمرّة الأولى. ونحن نعرف أنّ هذا الثوب يرمز إلى الطهارة والطبّ والقطاع الصحي. لذلك اخترناه اسماً”.
هذا التوصيف يؤيّده الدكتور هادي مراد، وهو من المؤسسين الشباب أيضاً، مشيراً في الوقت نفسه إلى شقّ سياسي للاسم: “القمصان البيض هم الصورة المناهضة لصورة القمصان السود التي دمّرت بيروت. أردنا لهذا الاسم أن يحمل الأمل والحياة والصفاء والعلاج وأن يكون رداً سياسياً على الذين حاولوا أخذ بيروت إلى الدمار والهلاك في الماضي”.
آخر الملفات التي تصدّى لها فرسان “القمصان البيض” كانت “السقوف المالية” للمستشفيات الخاصة، التي جعلها وزير الصحّة “مجحفة”، وفق الدكتور مراد: “هناك إجحاف واستنسابية واستغلال لنفوذ السلطة من قبل وزارة الصحة لصالح حزب الله ومستشفياته، التي رفع سقوفها المالية وظلم المستشفات الأخرى”. فعلى سبيل المثال حصلت مستشفى الرسول الأعظم على ما يعادل مخصّصات مستشفيات “الجامعة الأميركية” و”كليمنصو” و”أوتيل ديو”…
إقرأ أيضاً: كوفيد 20: لماذا رفضت “لجنة الكورونا” إقفال المطار؟
إنّهم “القمصان البيض”، 100 طبيب لبناني وجدوا أنّ الأحزاب والقوى السياسية التقليدية والنقابات لا تتّسع لهم، وأنّه من الأسهل الذهاب إلى مساعدة المواطنين مباشرة في الشارع، بلا وسائط، وبعناوين واضحة ضدّ السلطة وضدّ تحويل وزارة الصحّة إلى ملحق صحيّ وماليّ لحزب الله.