قد لا يكون مبالغةً القول إنّ النتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة في العراق قد تشكّل مؤشّراً إلى ما ستكون عليه الانتخابات البرلمانية المقبلة في لبنان، سواء تمّ تقديم موعدها أشهراً أو جرت في موعدها المقرّر.
فأوجه الشبه في الصراع السياسي والانتخابي تكاد تكون متطابقة في توزيع محرِّكات هذا الصراع الطائفية والحزبية التي تعمل على تحشيد البيئات المؤيّدة والحاضنة لكلّ مكوّن، سواء كان دينياً أو طائفياً أو مذهبياً أو عرقياً أو سياسياً، من أجل الحصول على أعلى نسبة من المقاعد البرلمانية تسمح لها بالإمساك بمفاتيح السلطة التنفيذية والقرار السياسي للبلد.
ستكون المعركة الانتخابية بين القوى الداخلية العراقية، هذه المرّة، أكثر تعقيداً وأشدّ غموضاً في قدرتها على إنتاج أو فرز منتصر واضح ومتقدِّم على الأطراف الأخرى. لذا لن تساهم أو تساعد النتائج، التي ستخرج بها الانتخابات، في إعادة خلط الأوراق، بل ستعيد إنتاج القوى الحالية والقائمة
فالحقل الانتخابي العراقي من المفترض به أن يكون الحقل الذي تختبر فيه المؤثّرات الخارجية مدى قدرتها على إخراج النتائج التي تريدها من هذه الانتخابات، والتي تسمح لها بتكريس هيمنتها وتحكّمها بالعملية السياسية على حساب العامل المنافس، باعتبارها الناتج النهائي لاختبار العملية الانتخابية.
وإذا ما حُصِرت العوامل الخارجية المؤثّرة في العملية السياسية على الساحة العراقية بطرفين أساسيَّيْن، الأوّل أميركيّ يمتلك امتداداً إقليمياً عربياً، والثاني إيرانيّ، فإنّ صراع الإرادات الدولية سيكون الناتج الأبرز للعملية الانتخابية وما ستفرزه من تركيبة في الرئاسات الثلاث الدستورية. أمّا العامل التركي فيحاول شقّ طريقه للدخول إلى خارطة القوى الإقليمية المؤثّرة باستقلاليّة، وفي إطار رؤيته ومصالحه الخاصة، وعلى حساب المؤثّرات الإقليمية الأخرى، خصوصاً داخل المكوِّن السنّيّ، بناءً على قراءته التاريخية للصراع على الساحة العراقية، واعتبار ما يشهده العراق والمنطقة امتداداً للصراع الصفوي العثماني. وقد يشكِّل المكوّن السنّيّ مدخلاً إلى استعادة دوره ونفوذه، ويساعد في إبعاد شبح التحدّي الكردي الذي تحوّل انتشاره في هذه المنطقة الجغرافية إلى تهديد له من جهات الأرض الأربع (الداخل التركي والعراق وسوريا وإيران)، حتى لو أدّى ذلك إلى إحداث تغييرات جيوسياسية في العراق وسوريا لمصلحته، على غرار ما يحاول تكريسه على الحدود الشمالية لإيران مع أرمينيا وأذربيجان.
المؤثّرات الخارجية لها امتدادات داخلية عراقية تلعب دور العامل المساعد في بلورة الصراع بينها. وتنقسم هذه الامتدادات أو القوى السياسية العراقية عمودياً في تبنّي وجهة نظر واحد من هذه المؤثّرات. ويمكن القول إنّ المؤثّر الأميركي وامتداده العربي يلتقيان مع المؤثّر التركي في مواجهة المؤثّر الإيراني والسعي إلى إضعاف دوره ونفوذه والتقليل من حصّته داخل العمليّة السياسية العراقية، أو على الأقلّ محاصرته ومنعه من فرض هيمنته المطلقة على المشهد العراقي.
ستكون المعركة الانتخابية بين القوى الداخلية العراقية، هذه المرّة، أكثر تعقيداً وأشدّ غموضاً في قدرتها على إنتاج أو فرز منتصر واضح ومتقدِّم على الأطراف الأخرى. لذا لن تساهم أو تساعد النتائج، التي ستخرج بها الانتخابات، في إعادة خلط الأوراق، بل ستعيد إنتاج القوى الحالية والقائمة والمتحكّمة بالعملية السياسية، لكن مع إعادة توزيع أحجامها الشعبية، من دون أن تحقّق تغييراً في قدرتها أو موقعها في خارطة التأثير والمحاصصة بشكل واضح. ولعلّ الصراع على النتائج الأوّليّة للاقتراع الخاصّ بالقوى الأمنيّة والنازحين والسجناء، الذي جرى يوم الجمعة، يشكّل مدخلاً إلى فهم حساسيّة هذه المعركة وما ستكون عليه نتائج الاقتراع العام.
يبدو أنّ المسلَّمة الوحيدة للانتخابات العراقية أنّها ستعيد إنتاج الطبقة السياسية. ومع الأخذ بعين الاعتبار التشابه الكبير بين المشهد العراقي والمشهد اللبناني، فهل تكون هذه الانتخابات بمنزلة “تجربة أو بروفا” للانتخابات البرلمانية اللبنانية المقبلة؟
السيّد عمّار الحكيم رئيس تيار الحكمة المحسوب على التيّار المعتدل، الذي أخذ مسافة من المعسكر الإيراني من دون قطيعة معه، ويُعتبَر أحد أقطاب العملية السياسية، لا يتردّد في تشبيه المشهد العراقي بالمشهد اللبناني، لافتاً إلى أنّ “مجموعة من الأقطاب هي التي تسيطر على المعركة السياسية والانتخابية والسلطوية”، انطلاقاً من تخندقها الطائفي والانتماء المذهبي والقومي وليس الوطني، وتحكم تحرّكها المصالح الفئوية والضيّقة على حساب المصلحة العامة.
وقد ساعد النظام الأساس أو الدستور، الذي يحكم العملية السياسية الجديدة ما بعد عام 2004، في إنتاج هذه القطبية وتكريسها انطلاقاً من تكريسه لعرف التقاسم الطائفي والقومي للسلطات الثلاث في مؤسسات الدولة، فضلاً عن توزيع الحصص على المكوِّنات الطائفية والقومية كاستحقاق لها بناءً على نتائج ومخرجات العملية الانتخابية.
وإذا ما كان المشهد اللبناني قد كرَّس قيادات وأقطاباً طائفية بالدرجة الأولى، وسياسية بالدرجة الثانية، تتقاسم المشهد السياسي والانتخابي، فإنّ العملية السياسية العراقية أعادت إنتاج هذا المشهد، ثمّ كرّسته الانتخابات البرلمانية المتعاقبة، مع تقدّمٍ لطرف على آخر، أو انحسار القواعد الشعبية لجهة لحساب أخرى. وفي حين تتحكّم بالمشهد اللبناني قيادات لا تزيد عدد الأصابع العشرة بين مسلمين ومسيحيين، فإنّ المشهد العراقي يتوزّع أيضاً بين 7 أقطاب شيعة وما يمثّلونه من تحالفات وأحزاب. وهم نوري المالكي وعمّار الحكيم وحيدر العبادي وهادي العامري وفالح الفيّاض ومقتدى الصدر وأيّاد علّاوي. أمّا المكوّن السنّيّ فتسيطر عليه ثنائية محمد الحلبوسي وخميس الخنجر، فيما تتقاسم المشهد الكردي ثنائية الحزب الديموقراطي الكردستاني البارزاني والاتحاد الوطني الطالباني ومعه تيار كوران أو التغيير. هذا وتسعى الأحزاب الإسلامية الكردية إلى احتلال موقع إلى جانب هذه الثلاثيّة.
قد لا تأتي مخرجات الانتخابات البرلمانية، التي يشهدها العراق، بمتغيّرات جذرية. وكما هو حال الساحة اللبنانية، فإنّ القوى الشبابية المنتفضة على العملية السياسية والتحاصصيّة بين أقطاب العملية السياسية لن تكون قادرة على إحداث التغيير المطلوب. وإن استطاعت تحقيق اختراق والحصول على بعض المقاعد، فإنّها لن تكون قادرة على تغيير اتجاهات النظام السياسي. ويبدو أنّ رهانها على التأسيس المستقبليّ للتغيير يدخل في دائرة الغموض، خصوصاً أنّ الرهان على خيار المراكمة يتهدّده خطر قدرة القوى السياسية على استيعابه وإدخاله في لعبة التقاسم والتحاصص.
تستعدّ القوى السياسية المسيطرة على المشهد العراقي للتعامل مع مخرجات صناديق الاقتراع مع غروب اليوم، وستلجأ إلى وضع الخطوط العريضة للتعامل مع التغييرات التي ستعيد إنتاج أحجامها السياسية والشعبية، ثمّ ستذهب للبحث عن آليّات لعقد تسوية تساعد في إعادة إنتاج السلطة التنفيذية واختيار رئيس الوزراء الجديد وتوزيع المواقع الوزارية والأولى في الحكومة تحت غطاء شعارات الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد وتعزيز السيادة وإعادة بناء المؤسسات السيادية ومكافحة ظاهرة السلاح المتفلّت.
إقرأ ايضاً: انتخابات لبنان والعراق: إنّها السياسة… وليس الفساد
يبدو أنّ المسلَّمة الوحيدة للانتخابات العراقية أنّها ستعيد إنتاج الطبقة السياسية. ومع الأخذ بعين الاعتبار التشابه الكبير بين المشهد العراقي والمشهد اللبناني، فهل تكون هذه الانتخابات بمنزلة “تجربة أو بروفا” للانتخابات البرلمانية اللبنانية المقبلة، فتعيد هذه الأخيرة إنتاج السلطة القائمة مع ما يداخلها من أزمات وإشكالات، وترفع الشعارات نفسها ووعود النهوض ومحاربة الفساد التي في العراق؟
إنّه واقعٌ لا يبتعد عن الحقيقة كثيراً.