دخلت الانتخابات البرلمانية العراقية المبكرة مرحلة جديدة شديدة الحساسيّة بعد الموقفين الصادرين عن المرجع الأعلى للحوزة العلمية الدينية في النجف آية الله السيد علي السيستاني، والمرجع السيد كاظم الحائري.
وقد رأت جميع القوى السياسية والمكوّنات العراقية في بيان السيد السيستاني خارطة طريق للناخب، والانتخابات، والبرلمان، والعمليّة السياسية في المرحلة المقبلة التي ستنتجها هذه الانتخابات.
تمسّكت مرجعيّة النجف في بيانها بالثوابت والمبادئ والمسلَّمات، معتبرةً على مدى السنوات الماضية أنّ من صلب دورها الإرشاد في ظلّ النظام الجديد في عراق ما بعد 2003، داعيةً إلى انتخاب الأفضل والالتزام بالدستور.
لم يقتصر تصويب الحائري على ما فُهِم منه أنّه استهداف للتيار الصدري، بل شمل أيضاً كلّاً من رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي زعيم تحالف النصر، ومعه رئيس تيار الحكمة عمّار الحكيم، بإشارته إلى حرمة انتخاب مَن يدعو إلى دمج الحشد في القوات الأمنيّة
والتزم البيان الصادر عن مكتب السيد السيستاني بموقف واضح من دور العملية الانتخابية في إعادة إنتاج الطبقة السياسية، وإحداث تغيير حقيقي في إدارة الدولة وإبعاد الأيادي الفاسدة وغير الكفوءة عن مفاصل الدولة، ودعا إلى أن يُحسن المقترعون اختيار ممثّليهم من بين المرشّحين الصالحين والمعروفين بالنزاهة والحرص على سيادة العراق وأمنه والالتزام بالدستور.
ونبّه بيان المرجعية الحكومة ومؤسسات الدولة المعنيّة بالإشراف على هذه الانتخابات، إلى ضرورة أن تجري بعيداً عن تأثيرات المال والسلاح غير القانوني والتدخّلات الأجنبية.
وإذا ما كان بيان مرجعية السيد السيستاني جاء منسجماً مع السياق العامّ لمواقف النجف وثوابتها من العملية السياسية، فإنّ البيان الصادر عن المرجع الحائري جاء واضحاً في موقفه السياسي الذي يخدم جهةً على حساب أخرى في العملية السياسية العراقية، بحيث يُخرجه عن الإطار العامّ الذي رسمته مرجعيّات النجف، من حيث الدور والموقع والنأي عن التدخّل في الشأن السياسي المباشر ودعم طرف على حساب آخر.
اتّفق الحائري، في جانب من بيانه، مع السيستاني في الموقف العامّ من العملية الانتخابية وضرورة إنتاج برلمان يلبّي المطالب الشعبية والسيادية بعيداً عن الفساد والمحاصصة، إلا أنّه يدخل في جانب آخر منه في صلب المواقف السياسية المباشرة بدعوته إلى عدم انتخاب القوى العميلة والمُفسِدة، وبتحريمه التصويت لِمَن يؤيّد ويدعو إلى بقاء قوات الاحتلال (الأميركي) في العراق ولا يدعو إلى إخراجها.
وإذا ما اُعتُبر أنّ الموقف من وجود قوات الاحتلال يصبّ في سياق وطنيّ يسعى إلى الدفاع عن السيادة العراقية، فإنّ انتقال الحائري إلى إعلان موقف مباشر بتأييد طرف على حساب آخر، وبدعوته إلى تحريم انتخاب كلّ مَن يعادي الحشد الشعبي أو يدعو إلى دمجه في القوات الأمنيّة لإضعافه وإرضاء الأعداء، يُخرِج موقفه من الإطار الذي حرصت كلّ المرجعيّات الدينية على الالتزام به في تعاطيها مع العملية السياسية.
وقد أثار موقف الحائري، المعروف بأنّه شكّل في مرحلة من المراحل المرجعيّة الدينية للتيار الصدري، جدلاً واسعاً داخل القوى والقواعد الشعبية للأحزاب الشيعية، خصوصاً داخل التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر الذي يتّهمه تيّار واسع من القوى الشيعية المؤيّدة للحشد بأنّه حمل بعد تحرير الموصل مشروع حلّ تشكيلات الحشد ودمج عناصرها في القوات الأمنيّة والعسكرية، بحيث اُعتُبرت مواقف الحائري هذه استهدافاً مباشراً للصدر، وربّما تُحدِث إرباكاً داخل قواعده الشعبية الملتزمة بالفتوى الشرعية، وتقدِّمها على الموقف السياسي.
لم يقتصر تصويب الحائري على ما فُهِم منه أنّه استهداف للتيار الصدري، بل شمل أيضاً كلّاً من رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي زعيم تحالف النصر، ومعه رئيس تيار الحكمة عمّار الحكيم، بإشارته إلى حرمة انتخاب مَن يدعو إلى دمج الحشد في القوات الأمنيّة.
هذا المشهد، الذي ترسمه مواقف مرجعيّة النجف ومرجعية الحائري من الانتخابات البرلمانية، يأتي فيما يحاول التيار الصدري الخروج من المأزق الذي دخل فيه نتيجة الموقف الذي سبق أن أعلنه زعيمه مقتدى الصدر قبل أشهر بمقاطعة العمليّة الانتخابية والانسحاب من السباق البرلماني. وهو الموقف الذي اتّخذه الصدر في اللحظة التي ارتفعت فيها إمكانيّة إلغاء الانتخابات أو تأجيلها إلى العام المقبل 2022.
والتيار الصدري على الرغم من تأكيده المشاركة الواسعة والقويّة في الانتخابات المقبلة، إلا أنّه أيضاً لم يستطع حتى الآن الخروج من ارتدادات موقف زعيمه على كتلته الناخبة التي بدأت تطرح أسئلة عن الدور الذي يلعبه التيار في العملية السياسية، وحجم مسؤوليّته عن التردّي الذي يعيشه العراق، ودخوله في لعبة المحاصصة والفساد، خصوصاً أنّ قرار الصدر بالانسحاب من العمليّة الانتخابية جاء بعد فضيحتيْ وزارتيْ الكهرباء والصحّة، بالإضافة إلى تحميله مسؤولية الأزمة المعيشية الناتجة عن قرار رئيس البنك المركزي المحسوب على التيار بخفض قيمة العملة الوطنية.
إنّ الصورة، التي حرص الصدر على توزيعها على قاعدته الشعبية، عن العشاء المتواضع الذي ضمّه وجميع مرشّحي التيار الصدري الذين يشكّلون كتلة “سائرون”، هي محاولة لإخراج تراجعه عن قرار المقاطعة من دون أن يكون ملزماً بموقف مباشر، بالإضافة إلى محاولة تصليب الموقف الانتخابي من أجل تحقيق الهدف الاستراتيجي للتيار بالسيطرة على أكثر من مئة مقعد في البرلمان الجديد تمهيداً لأن يكون قادراً على الإمساك بمنصب رئيس الحكومة والسلطة التنفيذية وقيادة القوات المسلّحة التي يعتبرها من حقّه هذه المرّة.
لا يقتصر هذا الإرباك الانتخابي، الذي يعيشه التيار الصدري، على صفوفه فقط، بل ينسحب أيضاً على التحالفات ما بعد الانتخابات، والتوفيق بين طموحات الكتل، التي سيتحالف معها، إلى أن تختار المرشّح الذي تريده، وبين طموحه إلى اختيار مرشّح من داخل صفوفه لرئاسة الوزراء. وفي حال فشل في تحقيق هذا الهدف، فإنّ التيار الصدري سيكون بين واحد من خيارين: إمّا أن يذهب إلى المعارضة، وهو ما يصعب القبول به من الصدر الذي سيجد نفسه خارج السلطة التنفيذية، وإمّا أن يذهب إلى إشعال الشارع الشعبي، الذي سيؤدّي إلى تفجير الوضع الأمني ونقل العراق إلى مرحلة فوضى جديدة وحروب متنقّلة بينه وبين الأحزاب والفصائل التي تملك السلاح، والتي ينضوي جزء منها تحت عنوان الحشد الشعبي.
إقرأ أيضاً: الانتخابات العراقيّة: المالكي والصدر ينافسان الكاظمي
وهناك خيار آخر قد يكون صعباً على الصدر، وهو أن يعيد النظر في تحالفاته السياسية، وأن يقبل بالتعاون مع قوى وأحزاب كان يرفض الحوار معها في السابق، وأن يتحوّل إلى شريك لا يملك القدرة على التحكّم بالقرارات الاستراتيجية، خصوصاً بعد دخول العامل الجديد الذي نشأ بعد موقف مرجعية النجف ومرجعية الحائري.