مرّت الذكرى الـ59 للحدث اليمنيّ الكبير في 26 أيلول 1962، ذكرى قيام الجمهورية العربيّة اليمنيّة والانتهاء من العهد الإماميّ. في 59 عاماً مرّ اليمن بمراحل عدّة وصولاً إلى المرحلة الراهنة التي تحوّل فيها شمال الجمهوريّة اليمنيّة إلى قاعدة صواريخ إيرانيّة تهدِّد كلّ دولة من دول شبه الجزيرة العربيّة، خصوصاً المملكة العربيّة السعوديّة.
بعد 59 عاماً على “ثورة 26 أيلول”، انقسم اليمنيّون والمهتمّون مباشرةً بالشأن اليمنيّ في المنطقة إلى فريقين. فريق يدرك معنى التحوّلات الجذرية التي شهدها البلد خلال 59 عاماً، وأبعادها. وفريق آخر يرفض الاعتراف بأنّ كلّ شيء تغيّر، وأنّ البلد في حاجة إلى صيغة جديدة.
يقف اليمن في الذكرى الـ59 لقيام الجمهوريّة عند منعطف، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أنّ الحوثيين مصرّون على وضع يدهم على مدينة مأرب
مثل هذه الصيغة هو أبعد ما يكون عن الوحدة أو عن صيغة الدولتين اللتين كانتا قائمتين قبل عام 1990. ثمّة مَن لا يريد حتّى أخذ العلم بأنّ إيران تعيد كتابة تاريخ اليمن على طريقتها اعتماداً على الحوثيين. بالنسبة إلى هؤلاء، يبدأ التاريخ الحديث لليمن في 21 أيلول 2014 عندما وضعوا يدهم على صنعاء، ووقّعوا “اتفاق السلم والشراكة” مع الشرعيّة ممثَّلةً بالرئيس المؤقّت عبد ربّه منصور هادي، برعاية مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، وقتذاك، جمال بنعمر.
ليس الشمال وحده الذي تغيّر. لم يدرك حزب التجمّع اليمني للإصلاح، وهو غطاء للإخوان المسلمين، معنى تنفيذ انقلاب على علي عبدالله صالح والنظام الذي أقامه منذ عام 1978. هذا لا يعني أنّ النظام، الذي كان قائماً في اليمن، من النوع الذي لا غبار عليه، بمقدار ما يشير إلى أنّ الإخوان، المتعطّشين إلى السلطة، لم يدركوا النتائج التي ستترتّب على التخلّص من الرئيس اليمنيّ السابق. لم يدرك الإخوان أنّ الحوثيين هم الرابح الأوّل من التخلّص من علي عبدالله صالح ونظامه، وأنّ عبد ربّه منصور هادي ليس مؤهّلاً لأن يكون في موقع رئيس الجمهوريّة حتّى لو كان ذلك لفترة محدودة. لم يقُم أيّ قيادي من الإخوان بأيّ مراجعة للمرحلة الممتدّة من 2011 إلى 2021 وما سبقها، والدور السلبي الذي لعبوه على كلّ صعيد في خدمة الحوثيين ومشروعهم.
يقف اليمن في الذكرى الـ59 لقيام الجمهوريّة عند منعطف، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أنّ الحوثيين مصرّون على وضع يدهم على مدينة مأرب. حقّق الحوثيون، الذين ليسوا سوى أداة إيرانيّة، مزيداً من التقدّم في محافظة مأرب نفسها حديثاً. حقّقوا أيضاً اختراقات في شبوة، وذلك لإحكام الحصار على مأرب في وقت يتأكّد يوميّاً عجز “الشرعيّة” عن القيام بأيّ خطوة فعّالة في مواجهة مَن يسمّون أنفسهم “جماعة أنصار الله”.
يبدو أنّ إيران لن تستخدم ورقتها اليمنيّة في أيّ مفاوضات في العمق مع المملكة العربيّة السعودية، وحتّى مع الإدارة الأميركية قبل الانتهاء من مأرب. صحيح أنّ التحالف العربي استطاع إلى الآن الحؤول دون سقوط المدينة، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ “الشرعيّة” لم تعُد قادرة على لعب أيّ دور إيجابي في المواجهة العسكريّة المستمرّة، التي تشهد، بين ما تشهده، اعتداءات يوميّة للحوثيين على أهداف مدنيّة سعوديّة.
على أيّ خريطة سيستقرّ اليمن… هذا إذا استقرّ يوماً، خصوصاً في ظلّ سياسة أميركيّة ترفض الاعتراف بأنّ المشروع التوسّعي الإيراني يشكّل خطراً على كلّ حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة؟
انقسم اليمنيّون والمهتمّون مباشرةً بالشأن اليمنيّ في المنطقة إلى فريقين. فريق يدرك معنى التحوّلات الجذرية التي شهدها البلد خلال 59 عاماً، وأبعادها. وفريق آخر يرفض الاعتراف بأنّ كلّ شيء تغيّر
تصعب الإجابة عن هذا السؤال، علماً أنّ تجاهل هذا الخطر الناجم عن المشروع التوسّعي الإيراني ستكون له ذيول، من بينها تغيير طبيعة المجتمع اليمنيّ في وقت صار الكلام عن استمرار الوحدة من رابع المستحيلات. من رابع المستحيلات أيضاً العودة إلى صيغة الدولة المستقلّة الواحدة في الجنوب. ستكون المسألة، التي تفرض نفسها، هي وجود واقع جديد ناجم عمليّاً عن فشل الدولة، التي استقلّت منذ عام 1967، وانهيارها. مثلما لم يوجد من بين الإخوان المسلمين من التجمّع اليمنيّ للإصلاح مَنْ يمتلك قراءة للأحداث اليمنيّة الممتدّة منذ 1962 إلى يومنا هذا، لم يوجد في الجنوب مَن يعترف بمسؤوليّة الذين تولّوا السلطة في جمهورية اليمن الديموقراطيّة الشعبية عن تفكّك تلك الدولة من داخلها.
هناك بالطبع استثناءات في ما يخصّ الجنوب. تؤكّد وجودَ الاستثناءات الحلقاتُ التي ظهر فيها حيدر أبو بكر العطّاس، آخر رئيس للدولة في الجنوب، وأوّل رئيس للوزراء في اليمن الموحّد، على شاشة “العربيّة” مع الزميل طاهر بركة. امتلك هذا السياسي اليمني، الذي وجد نفسه مكبّلاً في الشمال، وقبل ذلك في الجنوب، ما يكفي من الجرأة ليقول الأشياء كما هي.
مَن يدقّق في تفاصيل الحلقات التي ظهر فيها العطّاس يكتشف، عبر كلام هذا السياسي العاقل، العقل اليساري الطفولي الذي تحكّم بالقرار في الجنوب اليمني. يشمل ذلك الدورَ السلبيَّ الذي لعبه أشخاص مثل نايف حواتمة الأردني الذي تزعّم تنظيماً فلسطينياً، والذي كان لديه تأثيره القويّ في عدن. دفع هذا العقل المريض إلى التخلّص من أفضل الدبلوماسيين اليمنيين الجنوبيين في حادث طائرة حُشِر فيها هؤلاء في رحلة تفقّديّة في عام 1973. تطرّق العطّاس إلى ظروف إنشاء الحزب الاشتراكي، وضمّ شماليين إليه، وإلى إصرار على استفزاز دول الجوار، وإلى “أحداث 13 كانون الثاني” من عام 1986 بين علي ناصر محمّد وخصومه، التي كانت نهاية النظام… وإلى اختفاء عبد الفتاح إسماعيل الذي نجا من مجزرة المكتب السياسي، ملمّحاً إلى مسؤوليّة مجموعة معيّنة عن هذا الاختفاء. لم يقدّم العطّاس دليلاً حسّيّاً على ذلك، مكتفياً بالإشارة إلى أنّ بقاء عبدالفتاح حيّاً كان عائقاً في وجه تولّي علي سالم البيض موقع الأمين العامّ للحزب الحاكم. كلّ ما أستطيع زيادته على كلام حيدر العطّاس أنّي كنت، شخصيّاً، في عدن بعد أيام قليلة من المجزرة، وسرت في جنازة القياديّين الأربعة الذين قُتِلوا. الأكيد أنّه لم تكن من جثّة لعبد الفتاح إسماعيل في تلك الجنازة!
إقرأ أيضاً: سبع سنوات على سقوط صنعاء
لن يعود اليمن الذي عرفناه بأيّ شكل، لكن هل مَنْ يريد الاعتراف بالأخطاء القاتلة التي ارتكبت في الشمال والجنوب، والتي أوصلت إلى حال التفكّك والتشظّي. من بين أخطر ما في المرحلة الراهنة أنّ “الشرعيّة” مستعدّة لخوض كلّ الحروب مع المجلس الانتقالي الجنوبي الذي لديه أخطاؤه أيضاً… لكنّها عاجزة عن أيّ مواجهة حقيقية مع الحوثيين!