تتحرّك إيران في شمال العراق، فيما تستعدّ أنقرة لتحريك قوّاتها من جديد في شمال سوريا. وها هو رئيس الوزراء العراقي الجديد محمد شياع السوداني يقصد طهران ليعلن في طريق عودته: “أمن إيران والعراق متشابكان، ولن نسمح لأحد باستخدام الأراضي العراقية لزعزعة هذا الأمن”. فهل نسمعه يردّد كلاماً مشابهاً وهو يتحدّث عن العمليّات العسكرية التركية في شمال العراق؟
حذّر المرشد الإيراني علي خامنئي الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استضافته في طهران من أن تنفّذ تركيا عملية عسكرية جديدة في سوريا، قائلاً إنّ هذا سيعود بالضرر على تركيا وسوريا والمنطقة بأكملها، ودعاه إلى الحوار لحلّ الأزمات بطريقة سياسية.
نجحت إيران حتى الأمس القريب في أن تملأ فراغاتٍ روسية وأميركية إقليمية وتستغلّ أيّ تباعد سياسي وأمنيّ بين دول المنطقة، وأثبتت براعة في حماية ما وصفه خامنئي بأنّه “دفاع عن العمق الاستراتيجيّ للجمهورية الإسلامية”.
حذّر المرشد الإيراني علي خامنئي الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استضافته في طهران من أن تنفّذ تركيا عملية عسكرية جديدة في سوريا، قائلاً إنّ هذا سيعود بالضرر على تركيا وسوريا والمنطقة بأكملها، ودعاه إلى الحوار لحلّ الأزمات بطريقة سياسية
لكن لماذا تقلق إيران؟
القيادات الإيرانية تُقلقها مسائل عدّة:
– سياسة أنقرة الانفتاحية على العالم العربي.
– تعزيز تماسك الجغرافيا التركيّة في آسيا وأوروبا.
– التطبيع التركي الأخير مع إسرائيل.
– التنسيق الاستراتيجيّ مع روسيا.
– دور الوساطة التركية المؤثّر على خطّ موسكو – كييف.
– إعادة رسم التحالفات في موضوع غاز شرق المتوسّط.
أمّا أكثر ما يُقلق طهران فهو الساحتان السورية والعراقية بما هما نقاط تقارب وتباعد مع الجوار التركي. من الطبيعي أن ترصد إيران كلّ شاردة وواردة في هاتين الساحتين، لأنّ أيّ تراجع أو خسارة لها فيهما يعنيان المزيد من الانحسار وتضييق الخناق عليها في الإقليم.
لا تريد طهران أن يتوسّع النفوذ الأمنيّ التركي إلى الحدود السورية – العراقية – التركية بذريعة “الحرب على المجموعات الإرهابية”، فهيمنة أنقرة على تلك المناطق ستتسبّب بتضييق الخناق على مساحات نفوذ إيرانية بالغة الأهميّة.
بهذا المعنى هل يمكن الاعتقاد بأنّ ما كشفه مسؤول تركي رفيع قبل يومين من أنّ أميركا طلبت من تركيا التعاون “لتقليص نفوذ ميليشيات إيران شمالي سوريا”، يتناقض مع خبر آخر يقول إنّ أميركا قرّرت توسيع حربها على خلايا “داعش” في شرق الفرات، وتحتاج إلى “قسد” إلى جانبها في هذه العمليّات، أم تريد أميركا حماية الأسد عبر لعب الورقة الإيرانية ضدّ تركيا في هذه المنطقة؟
لا تحلم القيادة الإيرانية بأن تلعب دوراً مشابهاً للدورين التركي والفرنسي اللذين يتولّيان التحدّث إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين لبحث إنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا
الفرق بين أنقرة وطهران
لا تحلم القيادة الإيرانية بأن تلعب دوراً مشابهاً للدورين التركي والفرنسي اللذين يتولّيان التحدّث إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين لبحث إنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا. لكنّها تحاول تقليد تركيا في أوكرانيا عبر التنسيق مع روسيا ومحاولة كسبها إلى جانبها. الفارق بين أنقرة وطهران كبير في نظر الكثيرين. صحيح أنّ تركيا تنسّق مع روسيا في ملفّات ثنائية وإقليمية عديدة أغضبت الغرب، لكنّها في الوقت نفسه أرضت العواصم الغربية من خلال تقديم المسيّرات لأوكرانيا لاستخدامها في قتال القوات الروسية الغازية لأراضيها.
يستغلّ إردوغان فرصة أوكرانيا لتوسيع رقعة التواصل مع الغرب والشرق على السواء، في حين ترى هذه العواصم أنّ إيران هي الدولة الثانية بعد الصين التي تزوّد روسيا بالسلاح لتستخدمه ضدّ الأوكرانيين في حرب وصفتها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بأنّها “اعتداء وغزو للأراضي الأوكرانية”.
إيران والمسألة السوريّة
اختلفت هذه المرّة مواقف السياسيين ووسائل الإعلام التركية حيال موجات الاحتجاج والتظاهرات التي تعصف بالمدن الإيرانية منذ أسابيع. فقد دعت أنقرة إلى الإصغاء لمطالب الشارع والتعامل معها بليونة وتفهّم بعيداً عن القمع والعنف. وهذا أغضب المسؤولين الإيرانيين الذين اعتادوا موقفاً تركياً متفهّماً لما يجري عندهم يعلن أنّ أنقرة “تولي أهميّة كبيرة للسلم الاجتماعي، والاستقرار في إيران الصديقة والشقيقة”. لهذا ها هي طهران تتحرّك سريعاً للردّ، تماماً كما فعلت في أزمة جنوب القوقاز والحرب في قره باغ، وذلك ضمن التراشق السياسي والتاريخي بين قيادات البلدين.
انطلاقاً من مواقف إردوغان الأخيرة التي أعلن فيها أنّ “هدف تركيا في سوريا ليس هزيمة الأسد، بل التوصّل إلى حلّ سياسي والدعوة إلى حوار سياسي بين النظام والمعارضة”، سألني أحد مقدّمي البرامج في قناة عراقية محسوبة على إيران عن إمكان أن يعتذر الرئيس التركي إلى بشار الأسد عن مواقفه وتصريحاته وسياساته حيال النظام في دمشق. لا شكّ أنّ الرسالة التي يوجّهها أهمّ بكثير من الإجابة التي ينتظرها.
يحمّل إردوغان روسيا مسؤولية عدم مساعدته في حسم ملفّ “قسد” في شمال سوريا. لكنّ أنقرة اكتشفت متأخّرة أنّ إيران تحرّك أصابعها لتعرقل التقارب بين النظام وهذه المجموعات بهدف حماية نفوذها ومصالحها في مواجهة تركيا وروسيا.
بقدر ما تمارس “قسد” ضغوطات على واشنطن للحؤول دون العملية العسكرية التركية، تمارس طهران ضغوطات على النظام كي لا يتفاهم مع هذه المجموعات إرضاء لأنقرة.
عند هذا الحدّ نصل إلى وجود تقارب “موضوعي” بين مواقف إيران وأميركا ومصالحهما في مواجهة التقارب الروسي – التركي.
إنّ العملية العسكرية التركية قد تُقلق موسكو في سوريا لأنّها ستطال محاولة هيمنتها على المشهد. لكنّ القلق الأكبر هو في طهران التي تعتبر أنّ مراكز نفوذها مستهدفة، وقد تهتزّ صورتها في كلّ المنطقة.
قلق إيران من وساطة روسيا
روّج الإعلام الإيراني في أواخر آب المنصرم أنباء تقول إنّ القيادات السياسية التركية أبلغت قوى المعارضة السورية الموجودة في الداخل التركي أنّ عليها حزم الحقائب والاستعداد للمغادرة. ثمّ ردّد الإعلام الإيراني الموجّه أنّ النظام في دمشق ينتظر اعتذار أنقرة عن سياستها السورية طوال عقد كامل قبل الذهاب إلى طاولة حوار ثنائي. ما هدف طهران من ترويج هذه الأخبار: إعادة الاعتبار لبشّار الأسد أم تذكير أنقرة بمصالحها في سوريا؟
تكفي هذه الأنباء لتعكس مدى القلق والانزعاج الإيرانيَّين من جهود الوساطة الروسية على خطّ أنقرة – دمشق.
إقرأ أيضاً: “قسد” – واشنطن: قبلة الوداع؟
تريد طهران أن تقول أيضاً إنّها قدّمت خدمة استراتيجية لأميركا من خلال دعم ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وإنّ على واشنطن أن تحمي مقابل ذلك حصّتها في اتفاقيات يجري الإعداد لها بين دمشق ودول الجوار في شرق المتوسط، وتحديداً مع إسرائيل وتركيا. ولن يكفيها تحفُّظ البيت الأبيض على أيّ تقارب تركي مع النظام في دمشق، بل تريد أن تواكبه خطوات أميركية عمليّة في هذا الاتجاه تحول دون تسجيل أنقرة وموسكو أهدافاً استراتيجية في المرمى الإيراني.
تبنّت القيادة الإيرانية لعقود سياسة نقل مواجهاتها إلى الخارج لإبعاد الأنظار عن أزمات الداخل. يبدو أنّ عواصم عديدة قرّرت الردّ بالأسلوب نفسه: الوقوف إلى جانب حراك الداخل لمنع إيران من توتير علاقات الخارج. هكذا بات حلم توسيع إمبراطورية إيران أمام امتحان الانتقام للفتاة الكردية مهسا أميني. فمن سيفوز؟
بعض الوقت وتتوضّح الصورة. وقد تفتح منصّة إقليمية سداسية عاجلة تجمع تركيا ومصر والسعودية والإمارات وقطر والأردن الأبواب أمام صناعة الكثير من الجديد في المشهد السوري. وللحديث تتمة..