أين نحن اليوم في لبنان الهامد الخامد وهو مفلس سياسياً واقتصادياً ؟
أين نحن من إيران الملتهبة بحناجر مئات ألوف من أهلها، شاباتها وشبانها، هاتفةً في شوارع مدنها ومحافظاتها وجامعاتها ومدارسها: “النساء، الحياة، الحرية”؟
أيقونات الربيع العربي
هل يشبه ما يحدثُ في إيران اليوم ما حدث في بلدان “الربيع العربي” منذ سنة 2011، وقبله في لبنان 2005 وبعده في تشرين 2019؟
ما يحمل على هذه الأسئلة واحتمال التشابه بين هذه الحوادث الكبرى في موجاتها المتلاحقة في بلدان عدة، هو أن الشرارات الأولى التي أشعلت كلاًّ منها متشابهة: قيام أهالي البلدان التي تحكمها أجهزة أمنية سلطوية قاهرة، رسمية أو سرية وغير رسمية، على ما تمارسه هذه الأجهزة من عنف تعسّفي وتعذيب وقتل واغتيال لأشخاصٍ غُفْلٍ لا حصانة لهم من قانون يحميهم، ويمكن استباحتهم بلا حسيب ولا رقيب. أما رئيس الوزراء اللبناني الذي يشذُّ وحده عن هذه الغفلية أو المجهولية، فلم يَحْمِهِ كونه من أصحاب المكانة والحصانة والشهرة الدولية من إقدام جهاز أمني سري على اغتياله بطنٍّ من المتفجّرات في مدينة بيروت.
في ضوء الانتفاضة الإيرانية الراهنة التي لا تزال تتدرّج وتتّسع، وفي ضوء سابقاتها العربيات ومصائرها المأسوية الماثلة، لم يصدر كلٌّ من هذه الانتفاضات عن “وطنية سياسية جامعة أو موحّدة
أليس من تشابهٍ ما بين الحوادث والأسماء التي خرجتْ من الغفلية إلى العلانية العامة في بلدان “الربيع العربي” منذ 2010، وبين الحادثة التي تعرّضت لها الشابة الإيرانية الكردية مهسا أميني قبل أسابيع ثلاثة؟ فلنستعرض هذه الحوادث والأسماء المغفلة التي مهدت لأشعال الانتفاضات وانتصبت أعلاماً عليها: محمود البوعزيزي الذي أحرق نفسه في تونس نهاية سنة 2010، احتجاجاً على إقدام شرطية على صفعه وإهانته لأنه بائع متجوّل بائس، مجهول ومغفل، على عربة، فصار اسمه عنوان “ثورة الياسمين” التونسية. خالد سعيد الشاب المصري الذي اعتقله جهاز الشرطة المصرية وعُذّب حتى القتل، فأطلق مقتله حملة احتجاجية عنوانها “كلنا خالد سعيد”، ومهدت للثورة المصرية في يناير 2011.
وفي سوريا الأسد اعتقلت الأجهزة الأمنية فتياناً في مدينة درعا وعذّبتهم، لأنهم لاهين كتبوا على جدار عبارة أو أيقونة “الربيع العربي”: “الشعب يريد إسقاط النظام”. لكن الأفظع كان قول أحد ضباط الأسد الأمنيين لآباء الفتيان: انسوا أبناءكم، وأحضروا نساءكم إلى المقر الأمني، فننجب لكم منهنَّ أطفالاً غيرهم. وكانت هذه العبارة الشرارة الأقوى في انطلاق الغضب السوري المتراكم خامداً منذ عقود، فانفجر في الديار السورية ليردّد أهلها “يا درعا نحن معاكِ للموت”.
أما ميل رفيق الحريري ميلاً هادئاً وخافتاً إلى حركة احتجاجية لبنانية متنامية على سلطان “الوصاية السورية الأسدية” على لبنان الدولة والمجتمع، فأدى إلى اغتياله في 14 شباط 2005، وهبّت فئات وجماعات وهبّ أفرادٌ في لبنان في انتفاضة شعارها “حرية، سيادة، استقلال”.
الشعوب والسياسة
بصرف النظر عن تنوّع مسارات هذه الانتفاضات والثورات وسواها من أمثالها، وعن نتائجها المأسوية التي أسفرت عنها في بلاد عربية، فإنها تشترك في انبعاثها من غضب دفين متراكم على سلطاتٍ قهرت المجتمعات وصدّعتها بسلطانها الأمني. وهو سلطان جعل السياسة والرأي السياسي والكلام في السياسة خارج الطاعة والولاء، تعادلُ الخيانة والعمالة. وهذا لسان حال قادة أجهزة إيران الأمنية ومرشدها الأعلى، في وصفهم المحتجين/ات على قتل الشابة مهسا أميني.
لكن في ضوء الانتفاضة الإيرانية الراهنة التي لا تزال تتدرّج وتتّسع، وفي ضوء سابقاتها العربيات ومصائرها المأسوية الماثلة، لم يصدر كلٌّ من هذه الانتفاضات عن “وطنية سياسية جامعة أو موحّدة”، أي عن شعب واحدٍ موحّدٍ ضد سلطةٍ أو نظام أمني شمولي قاهر. فرغم أن هذه السلطات أو الأنظمة تتسلط على نحو متباين ومتفاوتٍ على المجتمعات وتصدّعها وتجعلها متصحّرة سياسياً، فإن المنتفضين عليها ليسوا شعوباً سياسية موحّدة، بل هم فئاتٌ وجماعات متنوّعة في تواريخها واجتماعها وثقافاتها ومذاهبها الدينية وتطلّعاتها القومية والإثنية. وهي جماعات متنوّعة أيضاً في أساليب حياتها وأنماط عيشها، وصولاً إلى أنواع القهر التي تتعرض لها حسب الجنس والعمر وعلاقات الولاء والعمل والمناطق.
بصرف النظر عن تنوّع مسارات هذه الانتفاضات والثورات وسواها من أمثالها، وعن نتائجها المأسوية التي أسفرت عنها في بلاد عربية، فإنها تشترك في انبعاثها من غضب دفين
ورغم أن هذه الفئات والجماعات قد يوحّدها توقُها إلى الكرامة والحرّية والعدالة والمساواة وتقرير المصير، فإن هذا التوق المشترك عينه لا يجعلها شعباً سياسياً ناجزاً أو في طريقه، حتى أثناء الانتفاضة، إلى إنجاز وحدته السياسية. فالكرامة والحرية والعدالة التي يتوق إليها المنتفضون، تتنوّع أشكالها ومضامينها وتتعدّد، حسب الفئات والجماعات. وهذا تُبيّنه الانتفاضة الإيرانية الراهنة، كما تُبيّنه أشكال التصدّي السلطوي، العنيف والدامي، بمقادير متفاوتة، لفئات المنتفضين وجماعاتهم المتباينة قومياً وإثنياً ودينياً.
الدولة الأسدية مثالاً
ففي إحصاءات “منظمة حقوق الإنسان الإيرانية” أن أغلب القتلى من المحتجّين سقطوا في محافظات بلوشستان (ديار البلوش) وفي أذربيجان (ديار الأذريين) وفي ديار الكرد الإيرانيين. وفي زهدان وحدها (عاصمة بلوشستان) وصل عدد القتلى، حسب “حملة نشطاء البلوش”، إلى 82 شخصاً. واغتصب قيادي في الشرطة فتاة بلوشية. أما العميد محمد عبدالله بور قائد الحرس الثوري في جيلان، فقال: “اعتقلنا 106 أشخاص من قادة الاضطرابات”. ووصف المعتقلين بأنهم “متأثرون بالألعاب الإلكترونية، ومن أبناء المطلقين في الطبقة الوسطى والضعيفة الذين يواجهون مشاكل أسرية ويتعاطون المخدّرات والكحول”. وقالت الشرطة إنها اعتقلت 739 شخصاً من بينهم 60 امرأة في محافظة جيلان الشمالية.
إقرأ أيضاً: إيران ونساؤها في صورتين (1) : مرشدُ القتل الحنون والبهجة السوداء
من المفروغ منه أن إيران ليست دولة يُحترم فيها التنوع القومي والعرقي والثقافي والديني. بل إن سلطاتها الديكتاتورية تمييزية ومذهبية قاهرة، قوامها تسلط رجال الدين الشيعة، وحرسهم الثوري وسواه من الأجهزة الأمنية على المجتمع وجماعاته المتباينة التي تشعر بالتسلط عليها تسلطاً قومياً وعرقياً ومذهبياً. وطبقة رجال الدين الدين الشيعة الحاكمة تكتم قوميتها العرقية والمذهبية المغلقة والمنكفئة تحت ستار الإسلام الأصولي وتصديره إلى ديار العالم التي يتكاثر فيها أهل المذهب الشيعي. ودولة ولي الفقيه القوموية الإيرانية الشيعية، تدّعي أن إسلامها عالمي وهو الإسلام القويم أو الصحيح. وهذا كله يجعلها دولة أشد قدامةً من دولة الأمبراطورية العثمانية السلطانية. وهي في حداثتها وقوميتها ومذهبيتها تشبه دولة حافظ وبشار الأسد في وجه من وجوهها. لذا قد تلجأ دولة ولي الفقيه إلى سلوك يشبه سلوك الدولة الأسدية حيال الثورة السورية، في حال استمرت الانتفاضة الإيرانية الراهنة، واستنزفت نظام الملالي وسلطانه.