لم تمضِ أيام على تسريب مسوّدة قانون “هيكلة المصارف”، حتى جاء الردّ ناريّاً وسريعاً من بوّابة جمعية المصارف عبر بيان “مصارحة” لم يأتِ على ذكر المسوّدة، لكنّه اتّهم السلطة والمصرف المركزي مجتمعَين بـ”تبديد أموال المودعين”، ما يوحي بأنّ المصارف غير راضية على مضمون هذه المسوّدة.
العملة بالأوزان
وردّ بيان الجمعية مخاطباً المودعين، محاولاً ترميم الثقة بين المصارف وزبائنها بـ”حبر على ورق”، فسأل أسئلة تخصّ الودائع من صنف: أين هي؟ ومن المسؤول عن جفاف السيولة؟ وهل كان بوسع المصارف فعلاً التصدّي للسياسات الماليّة والنقدية؟
تعيدنا هذه المسوّدة بالذاكرة إلى شهر آب 2020، وتحديداً إلى التعميم الصادر عن مصرف لبنان رقم 154
وسأل البيان وأجاب نفسه بنفسه، مُحاولاً توزيع المسؤوليات وطرح الحلول. فأبدى أسف الجمعيّة على قانون “الكابيتال كونترول” الذي لم يبصر النور إلى اليوم، ونفضها يدها من مسؤوليّات الهدر والفساد، متناسياً الاستنسابية التي مارستها المصارف بين مودع وآخر، في سماحها بتحويل الأموال إلى الخارج. وفي الختام حذّر من مغبّة الاستمرار بهذا النهج الذي قد يفضي إلى هجر صندوق النقد الدولي “سماء لبنان”، وارتفاع سعر الصرف إلى مستويات فلكية تنذر باستبدال آلات عدّ العملة بالقبّان لإحصاء الليرات اللبنانية بالأوزان بدل الأعداد!
وتشير المعلومات إلى أنّ جمعية المصارف بدأت تتآكلها الخلافات من داخلها، بعدما أبدت بعض المصارف رغبتها في التفاوض جدّياً مع المودعين، في محاولة لفصل الودائع الصغيرة عن تلك الكبيرة، والبحث في كيفية إرضاء أصحابها بعيداً عن الاستنسابية المفروضة على المصارف “زوراً”.
ويبدو أنّ هذه المصارف كانت تتطلّع إلى استباق قانون الهيكلة منذ فترة، بعد شعورها بالظلم نتيجة قدرتها على أخذ زمام المبادرة بشكل منفرد، ومن خارج الاصطفاف المصرفي للجمعية، لكنّ الأخيرة رفضت الأمر في أحد اجتماعاتها، حسب المعلومات، وفرضت على المصارف عدم التغريد من خارج السرب، بل التحدّث بلغة الجمعيّة، أي “بلغة واحدة”.
وتؤكّد المعلومات أيضاً أنّ علاقة المصارف بالجمعية اليوم “ليست على ما يُرام” منذ بداية ولاية سليم صفير، إذ “تسود الخلافات وتغيب التفاهمات”، بخلاف ما تحاول الجمعية إظهاره في بياناتها من وحدة صفّ وموقف. ولذلك كلّ ما يُحكى عن مواقف موحّدة للمصارف تحت جناح جمعيّة المصارف “محض رياء وتمثيل”.
ما الذي يزعج المصارف في مسوّدة القانون؟
بخلاف فصل الودائع بين “مؤهّلة” و”غير مؤهّلة”، تنصّ مسوّدة قانون هيكلة المصارف على شطب جزء من التزامات مصرف لبنان تجاه المصارف. فهذه الالتزامات تُقّدر حسب آخر الأرقام بنحو 85 مليار دولار، وهي مهدّدة بالزوال بعد إقرار خطّة التعافي وقانون الهيكلة. وهذا يعني أنّ السلطة تتهيّأ لشطب ما يصل إلى 65 مليار دولار من ميزانية مصرف لبنان، على حساب المصارف، أي على حساب المودعين. تُضاف إلى ذلك خسائر المصارف من التسليفات التي قدّرتها الجمعية في بيانها الأخير بنحو 40 مليار دولار، دُفع منها نحو 30 ملياراً على سعر الصرف الرسمي بالليرة اللبنانية (1,507 ليرات)، وهي خسارة إضافية على كاهل المصارف، واستطراداً على كاهل المودعين أخيراً.
بخلاف فصل الودائع بين “مؤهّلة” و”غير مؤهّلة”، تنصّ مسوّدة قانون هيكلة المصارف على شطب جزء من التزامات مصرف لبنان تجاه المصارف. فهذه الالتزامات تُقّدر حسب آخر الأرقام بنحو 85 مليار دولار، وهي مهدّدة بالزوال
تعني هذه المسوّدة في ما تعنيه أنّ المصارف الأكثر تضرّراً من قانون إعادة الهيكلة ستكون:
أ- المصارف التي يدين لها المصرف المركزي بالتزامات أكثر، لأنّها ستتحمّل الحصّة الكبرى من الخسائر.
ب- المصارف التي تملك، في المبدأ، أكبر قدر من الحسابات المصرفية بالدولار، وخصوصاً إن كانت تلك الحسابات موزّعة على مودعين لهم 100 ألف دولار وما دون، لأنّها ستكون من بين أكثر المصارف التزاماً بدفع دولارات “فريش” للمودعين ضمن سقف أوّل: 100 ألف دولار من الودائع التي حدّدتها المسوّدة. على سبيل المثال، فإنّ مصرفاً بحجم ودائع 1 مليار دولار موزّعة على 10 آلاف مودعٍ يملك كلّ واحدٍ منهم 100 ألف دولار وما دون، سيتضرّر أكثر من مصرف بودائع 5 مليارات يملك كلّ مودع منها 1 مليون دولار، ولهذا قد ترفض المصارف أخذها بالجملة بموجب تلك المسوّدة.
وحسب المسوّدة أيضاً، فإنّ الودائع مُقسّمة إلى قسمين، ضمن منزلتين: “ودائع مؤهّلة” و”أخرى غير مؤهّلة”، لكنّ صفة التأهيل هنا غير نهائية، إذ تخضع لمعيار أهمّ يخصّ المصرف الذي يستقبلها. فإن كان المصرف “قابلاً للاستمرار”، تكون الوديعة قد قطعت نصف الطريق إلى التأهيل، أمّا إن كان المصرف “غير قابل للاستمرار” تكون الوديعة قد وقعت بالفخّ، وهذا يجعلها عمليّاً: 3 فئات.
مصير الودائع في مسوّدة قانون الهيكلة
1- “الودائع غير المؤهّلة” ضمن مصارف “قابلة للاستمرار”: وهي التي حُوّلت إلى عملات أجنبية بعد تاريخ 17 تشرين الأول 2019 وفقاً لسعر الصرف الرسمي. هذه الودائع ستُحوّل إلى الليرة اللبنانية على أساس سعر صرف أقلّ من سعر “منصّة صيرفة”.
2- “الودائع المؤهّلة” ضمن “مصرف قابل للاستمرار”: تسدّد المصارف من مجموعها 100 ألف دولار لكلّ مودع، شرط أن تكون ضمن “مصارف قابلة للاستمرار” حصراً، بعد حسم فائض الفوائد المدفوعة منذ سنة 2015، وعلى أن يبدأ التطبيق بعد إقرار قانون الـ”كابيتال كونترول”.
3- الودائع “المؤهّلة” و”غير المؤهّلة” ضمن مصارف “غير قابلة للاستمرار”: تخضه هذه الودائع لأحكام “قانون معالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها”. وفي أحسن الأحوال يحصل عليها المودع بموجب مبلغ الضمانة المنصوص عليه في قانون 28/67 (75 مليون ليرة لبنانية).
هذا وتطلب المسوّدة من المصارف “إجراء ما يلزم” (بلا توضيح كيف) لمطالبة أصحاب “الودائع المؤهّلة” في المصارف “القابلة للاستمرار”، الذين حوّلوا أموالهم إلى الخارج أو استعملوها لتسديد التزاماتهم واستثماراتهم المالية أو العقارية أو غيرها، بإعادة دفع ما يوازي قيمة فائض الفوائد التي حصلوا عليها اعتباراً من سنة 2015.
يشبه قانون هيكلة المصارف إلى حدّ كبير خطة التعافي الخاصة بالحكومة، التي ما زالت تنازع إلى اليوم، ما خلا بعض التعديلات على المفردات والمصطلحات
ثغرات المسوّدة
لا تذكر المسوّدة الفترة التي يدفع خلالها مبلغ الـ100 ألف دولار، لكن من المؤكّد أنّها ستُدفع بالتقسيط. وعليه، فإذا اعتبرنا أنّ المهلة هي 5 سنوات، فإنّ المودع الذي يملك 100 ألف دولار وآخر يملك 10 ملايين دولار سيحصلان بالتساوي على مبلغ يقارب 1,600 دولار شهرياً، على أن يحصل المودع الثاني على باقي أمواله بالليرة اللبنانية، وضمن شروط صارمة يُفترض أن تراعي الحذر من انفلاش كتلة الليرة اللبنانية في السوق والتسبّب بالتضخّم.
تشير المسوّدة التي ارتكزت على العموميّات إلى أنّ استرجاع الودائع أو أيّ قسم منها سيكون مرتبطاً بـ”وضعيّة كلّ مصرف وخصوصاً ملاءته وسيولته”. وهذا يفتح نافذة إضافية للاستنساب بين مصرف وآخر، وبين مودع وآخر أيضاً، ويعيدنا إلى الجدل الخفيّ الدائر اليوم في أروقة الجمعية.
تدعو المسوّدة إلى استكمال التدقيق المُحاسبي، وليس الجنائي، لميزانيّة مصرف لبنان بشكل يُراعي المعايير الدوليّة، تمهيداً لإعادة رسملة مصرف لبنان بـ2.5 مليار دولار من خلال سندات مالية، أو وسيلة أخرى، وهذا الكلام هو بمنزلة “حبر على ورق”، لأنّ المسوّدة لا تشرح كيف ستقنع المستثمرين بشراء سنداتٍ لدولة على شفير إعلان فشلها. وتدعو أيضاً إلى استعادة أموال جرائم الفساد، لكن لا يُعرف كيف سيحصل ذلك في ظلّ سلك قضائي عاجز ومترهّل!
لم تأتِ المسوّدة على ذكر الكثير من التفاصيل التي بقيت مبهمة حتى اللحظة. فلم تشرح مثلاً كيف ستحتسب الفوائد لاستعادتها وبأيّ شروط؟ هل تمنح المودعين منسوباً محدوداً من الفائدة أم ستستردّها كلّها؟ هل تدفع نسبة من الفائدة وفق المتعارف عليه في الخارج كأسس للانطلاق أم لا؟ هذه أسئلة لا تجيب عنها مسوّدة القانون وتترك بتّها لجهات وهيئات لا تبعد كثيراً عن مصرف لبنان، الذي لطالما اشتكى من سلوكه المودعون.
إقرأ أيضاً: دولار الـ 1,500: ميقاتي يعطي المقترضين من جيب المودعين
البكاء على أطلال التعميم 154
في الخلاصة، يشبه قانون هيكلة المصارف إلى حدّ كبير خطة التعافي الخاصة بالحكومة، التي ما زالت تنازع إلى اليوم، ما خلا بعض التعديلات على المفردات والمصطلحات. وتعيدنا هذه المسوّدة بالذاكرة إلى شهر آب 2020، وتحديداً إلى التعميم الصادر عن مصرف لبنان رقم 154، الذي كان يمكن أن يحلّ كبديل جدّيّ عن قانون الهيكلة فيما لو طبّقته المصارف في حينه وأشرف مصرف لبنان على تطبيقه كما يجب. لكنّ التعميم دخل هو الآخر في “سرداب” الاستنساب وعدم الشفافية، فلم يُطلع مصرف لبنان الرأي العام على أسماء المصارف التي التزمت به وتلك التي لم تلتزم. ولمن يذكر فقد أنشأ مصرف لبنان لجنة برئاسة أحد نواب الحاكم، بغية الاشراف على إعادة هيكلة المصارف التي فشلت في الامتثال لأحكام التعميم المذكور، فولدت تلك اللجنة ميتة نتيجة تعاطي مصرف لبنان بـ”خفة” مع مسألة مهمّة من هذا المستوى. ثمّ تأتي المصارف اليوم وجمعيّتها لتذرّ الرماد في عيون المودعين والدولة على حدّ سواء، فيمسي المودعون في صراع مع المصارف من جهة، وصراع آخر بين المصارف والسلطة من جهة أخرى، وصراع ثالث بين الجمعية والمصارف قد نبدأ بتلمّس إرهاصاته مع كل يوم يقرّبنا من إقرار قانون الهيكلة.