لم يسبق أن أعطى رئيس حكومة تشريعاً علنيّاً لسداد القروض المصرفية بنسبة “هيركت” تصل إلى 96 في المئة كما فعل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي.
المشكلة أنّ المسؤول التنفيذي الأوّل في الدولة يعلم أنّ الحسم من القروض ليس من جيوب أصحاب البنوك، ولا على حساب الدولة، بل إنّه يقضي على القليل المتبقّي من أموال المودعين.
المصارف والمودعون
لنُعِد ترتيب ما قاله ميقاتي في تصريحه لوكالة رويترز. قال إنّ سعر الصرف الرسمي الجديد عند 15,000 ليرة للدولار سيُطبّق في احتساب الرسوم الجمركية، فيما سيبقى سعر الـ 1,507 معتمَداً لسداد القروض السكنية والشخصية واحتساب ميزانيّات المصارف.
هذان البابان بالذات هما أوّل ما يجب تغيير سعر الصرف في احتسابهما.
ما حصل في البنوك منذ بداية الأزمة هو التالي: في أيلول 2019 كانت البنوك مدينة للمودعين بنحو 175 مليار دولار، منها 126 مليار دولار بالعملة الخضراء والباقي بالعملة اللبنانية. وكانت البنوك في المقابل توظّف هذه الأموال في ثلاثة أبواب رئيسية: سندات الخزينة (أي تُقرضها للدولة)، وشهادات إيداع لدى مصرف لبنان تراوح بين 70 و80 مليار دولار، والقروض للشركات والأفراد بنحو 40 مليار دولار.
ميزانية البنك ببساطة هي عبارة عن موجودات ومطلوبات، والفارق بينهما هو ما يملكه المساهمون في المصرف
كان البندان الأخيران يغطّيان ما يزيد على 90 في المئة من الودائع، من دون احتساب دولار واحد من ديون الدولة. وحتى مع الأخذ في الاعتبار فجوة الخسائر في ميزانية مصرف لبنان، كانت قروض القطاع الخاص مع احتياطات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية تغطّي أكثر من 55 في المئة من الودائع. وكان هذا كافياً لمعالجة الأزمة لو أنّ الدولة لم تتآمر على المودعين بإسقاط قانون الكابيتال كونترول مراراً وتكراراً، وتستخدم احتياطات مصرف لبنان لتهريب ودائع أصحاب النفوذ إلى الخارج.
سلطة لا إخلاقية
ميزانية البنك ببساطة هي عبارة عن موجودات ومطلوبات، والفارق بينهما هو ما يملكه المساهمون في المصرف. عندما تقع الأزمة تقوم أيّة سلطة لديها حسّ أخلاقي بالحفاظ على موجودات البنوك، لأنّها السبيل الوحيد للإيفاء بالمطلوبات (الودائع). لكنّ ما حصل في لبنان أنّ رئيس السلطة التنفيذية يخرج بتصريح علنيّ يغطّي إفراغ البنوك من موجوداتها المسجّلة بالدولار، ويصوّر الأمر وكأنّه فعل أخلاقي – إنساني للتخفيف عن الناس. أيّ ناس بالضبط؟ ومِن جيب مَن؟
ما عناه ميقاتي من دون أن يقوله هو أنّ المودع سيحصل على النزر القليل من وديعته الدولارية، بالليرة على سعر 15 ألف ليرة للدولار، أي بهيركت 60 في المئة في أحسن الأحوال، فيما سيسدّد المقترضون قروضهم على السعر الرسمي القديم، أي بحسم 96 في المئة.
يأتي هذا السخاء بعدما استفاد القطاع الخاص من الأزمة وتخلّص من قروض بقيمة 28 مليار دولار. كانت تلك القروض مغطاة بضمانات ضخمة من العقارات والأسهم، إلا أنّ عمليات السداد بالسعر المحسوم كانت الباب الذي تمّ من خلاله تهريب أصول البنوك والضمانات التي تدعم ملاءتها المالية، ولم يبقَ فيها إلا جبل من المطلوبات (الودائع)، متروك للتصفية بقوّة الأمر الواقع.
ارتياح القطاع الخاص
في المحصّلة، خرج القطاع الخاص من الأزمة مرتاحاً من خدمة ديونه ومن الديون نفسها، بشهادة النائب ميشال الضاهر، وهو من كبار رجال الأعمال في البلد، فيما بدأت الأصوات تتصاعد بالدعوة إلى مصارحة المودعين بأنّهم خسروا أموالهم.
يعلم ميقاتي، وهو من أكبر رجال الأعمال أيضاً، أنّه عندما تسدد قروض الشركات الكبرى والقروض الإسكانيّة والشخصيّة بأربعة في المئة من قيمتها الدولارية، فإنّه يؤيّد عمليّاً تغطية نسبة الـ 96 في المئة المتبقّية من القروض من أموال المودعين، لأنّها قاعدة التمويل الوحيدة لميزانيات البنوك. والغريب أنّ الدولة نفسها التي ضاعفت الرواتب ثلاث مرّات للقطاع العامّ، تؤيّد استمرار سداد القروض بالسعر الرسمي نفسه، من دون مضاعفتها ولو مرّة واحدة.
يشبه الأمر بالضبط سياسة الدولة في ملفّ الإيجارات القديمة على مدى عقود. فتَحْت شعار عدم رمي المستأجرين القدامى في الشارع ضاعت حقوق المالكين القدامى (لم يفسّر أحد كيف ينطبق ذلك على الأملاك التجارية مثلاً)، فباتت الدولة متعهّداً لنقل الثروة من الملّاك إلى المستأجرين، تماماً كما تحوّلت في الأزمة الراهنة إلى متعهّد لنقل الثروة من المودعين إلى المقترضين.
كان الأمر قابلاً للنقاش لو أنّ الدولة تُقدِم على هذا السخاء من خزينتها العامرة، أمّا أن يكون السخاء من أموال فئة أخرى من اللبنانيين، فهذا لا تفسير له إلا بلعبة موازين القوى المحليّة.
إقرأ أيضاً: الدولار في غضون شهرين: إمّا 30… أو 60 ألفاً
ما حدث أنّ ذوي النفوذ من أصحاب الودائع خرجوا من الورطة خلال السنة الأولى من الأزمة، بتمويل من مصرف لبنان الذي أقرض البنوك تسعة مليارات دولار من احتياطاته بذريعة تغطية انكشافاتها على البنوك المراسلة، فيما كان الجميع يعلمون أنّ المراكز المكشوفة ليست إلا عمليات تهريب أموال في وضح النهار.