الحياة بحّار مشتاق ومومس للإيجار(2)

مدة القراءة 7 د

ينشر “أساس” حلقة ثانية من رواية سمير عطاالله اللافتة “ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس”. تليها حلقة ثالثة وأخيرة.

– صوفيا، كنتِ تتحدثين عن قصة حب قبل أن أقاطعكِ (…).  

– لا أعتقد أن هناك أنساناً آخر (سواك يا رودريغز) أستطيع أن أروي له تلك القصة (…):

مرة في الأسبوع على الأقل تأتي باخرة شحن من نيويورك أو من نيو جرسي (إلى لووندا): بحارة أمضوا أياماً طويلة في البحر.

كأنني كنت على موعد مسبق معه ذلك المساء، فما أن اتخذتُ مقعدي في مقهى المتروبول حتى دخل وكأنه يبحث عن شخص معيّن، يميناً ويساراً، وذلك ما جعلني لا أتطلع إليه وأعطيه الإشارة المعهودة. جلس إلى طاولة قريبة ووضع عليها علبه الـPALL MALL  كبطاقة تعريف، أي انه أميركي ويدفع بالدولار. كان لا بد كان أن أنتظرَ قليلاً كي أتأكد من أنه لا ينتظر أحداً، وهو أيضاً كان حائراً وربما خجولاً أيضاً، يداعب بعصبية علبة الـ PALL MALL، وعندما شعرت أن وقتاً كافياً مر، أشعلت سيجارتي ونفخت دخانها في اتجاهه، وفوراً قام إلى طاولتي باسماً بطيبة مشعّة. كان طويل القامة نحيلاً، يرتدي سروالاً كحلياً وقميصاً أبيض عادياً، لكنه يبدو عليه في غاية الأناقة، ويا إلهي، كم هو وسيمّ! وكم هو متدفق طيبة وحيوية! تبادلنا الأسماء وكدنا نتبادل القبلات أيضاً، وزال جو الحذر سريعاً كما لو أنه مُسح بإسفنجة. قال إنه خواكيم سانتانا من نيويورك، بحار على السفينة “أيست أوف هدسون”، وإنه هنا لبضعة أيام، وإن سفينته تمر في لواندا مرة كل شهرين.

مرة في الأسبوع على الأقل تأتي باخرة شحن من نيويورك أو من نيو جرسي (إلى لووندا): بحارة أمضوا أياماً طويلة في البحر

في مثل هذه الحالات أدعو الزبون إلى “العمل” بسرعة، لكي لا أضيع على نفسي فرصة زبون آخر، لكن سانتانا كان فرحاً بالحديث ومشرقاً، وأنا كنت فرحة، كما كنت أفضل أن أخسر الأجرة على أن أخسر لحظات السعادة الغامرة التي أعرفها. لم يتوقف سانتانا عن الكلام وعن تقليب علبة “البول مول” بأصابعه الطويلة السمراء. كان يتحدث كأن العالم انفتح أمامه، وكان واثقاً من كل شيء: وسامته وشجاعته وطيبته وقوته. نسي هو ما جاء يبحث عنه في مقهى المتروبول، وأنا نسيت أحكام الحياة الجديدة التي دخلتها، وأحسست أن الوقت الذي أمضيه في الإصغاء إلى سانتانا أثمن بكثير مما أخسر، ليلة وتمضي، وغداً أعوض على العائلة ما خسرت.

لا داعي لأن أكمل لك ماذا حدث تلك الليلة. ذهبنا إلى مطعم يبعد عشر دقائق لتناول العشاء، مطعم صغير على الميناء، فيه عدد قليل من أهل البحر، وكان سانتانا لا يزال يتحدث ويقلّب بأصابعه الطويلة علبة السجائر. وأثقل عليّ الشعور بأن هذا الرجل النبيل يمضي ليلة مع مومس – “ليتني أليق بك حقاً” (كان يقول لي) – ورحت أتساءل في نفسي وهو لا يمل من معانقتي: متى سوف يتذكر أن الحياة بحّار مشتاق ومومس للإيجار؟ لكنه ظل ينشر فرحه حتى طلوع الفجر، وإذ قمنا نخرج، أخذ يديّ بين راحتيه وقبلهما:

“لن أنام معك كمومس يا صوفيا، فأنا مبحر هذا الصباح، وسوف أعود ومعي فستان العرس من عند “ساكس فيفث أفنيو”، وخاتم الزواج من تيفاني، وسوف يكون أرخص خاتم في ذلك المحل، هذا محل زبائنه ليسوا من البحارة”.

توقفت صوفيا عن الكلام لتمسح بيديها الاثنتين دموعاً تنهمر من عينيها الاثنتين، ومن قلبها، ثم قالت وهي تشهق: “أتعتقد إنه بإمكاننا تحمل زجاجة نبيد أخرى؟”، قلت: “ربما نصف زجاجة، لكنني لن أذهب إلى النوم قبل أن أسمع بقية ما حدث”. اقترحت صوفيا أن نعود إلى الداخل؛ لقد بدأ ليل الأطلسي يبرد، وهو برد لا يؤتمن في مطاوي الخلجان، ولا حتى في منفرجاتها. تركت صوفيا كل شيء على طاولة الشرفة وحملت النبيذ، شفيع مشاعر الحزن، إلى الداخل.

أو ربما شعرتْ الآن أنها في موقع المنتصر وأن حكايتها قد أسرتني حقاً، وقبل أن تعود إلى دير الكلاريسات، تكون قد أهدتني شياً لقاء هذه الإقامة في إيستوريا دي ليبرداد؛ شيئاً لها. هل هناك شبه بين حكاية صوفيا ولارا أندريا؟ أم أن كل الحكايات الحزينة متشابهة، قصيرة وصاعقة، ولا مكان لخاتمة سعيدة، أو حتى لأمل ضئيل؟ شبابيك مغلقة، ورودها من الخارج. كل حكاية قابلة للحياة تتطلب عناصر قابلة للاستمرار، وجمال الحدث ليس عادة كافية، مثلما الجسد ليس مادة كافية للروح.

لم يكن الخيار صعباً فقط، بل قاسياً أيضاً، رجل محترم طيب بعرض عطفه، ورجب نبيل مثل أمراء البحر يعرض حبه وشبابه، وكالعادة جاء الحل الحاسم من ألكسندرا، فقالت: “واضح أن قدرنا ألا نكون سعداء

كانت صوفيا تتحدث عن ملّاحها باكية، وأنا أتذكر قول “بيسوا”: “هناك سفن تبحر إلى موانئ كثيرة، ولكن ليس منها حتى واحدة تبحر إلى حيث الحياة لا ألم فيها”.

بدأ النعاس يغالبنا، والنبيذ والتعب والكلام، وذلك الشعور المهدّم بالهزيمة، فقلت لصوفيا: “بالإمكان أن نكمل غداً ونتوجه الآن إلى النوم”، إلا أن هذه الليلة ليلتها، ربما الليلة الأخيرة في إيستوريا دي ليبرداد، ولن يوقفها شيء عن التحدث عن خواكيم، فوضعت ساقاً على ساق بشيء من التحدي، وللمرة الأولى تطلعت إليها كامرأة لا كشيء، وعندما لاحظت اهتمامي أعادت رفع فستانها قليلاً إلى ما فوق الركبتين.

أكملت سردها المتحدي:

“رويت لألكسندرا ما حدث، وقلت لها إن الوقت لم يسمح لي بأن أعرف ما هي المراهقة قبل اليوم، وأن خواكيم أعاد إليّ كل المشاعر التي لم أعرفها: الطفولة والمراهقة والحب الأول، وتغيرّت رؤيتي لكل شيء، وسوف أجلس على الميناء مدى الحياة بانتظار هذا الساحر الوديع، وقد غمرتني ألكسندرا تشاركني فرحي. هذا أول نبأ جيد في لائحة سوداء، قررت أن أعمل قليلاً حتى عودة خواكيم، إذ لا يمكننا الاستغناء عن مورد حيّ المتروبول.

بعد ثلاث أو أربع ليالٍ حدث الحادث الأكثر تغييراً في حياتي، قبض عليّ رجال الشرطة بقسوة وأنا أجلس في زاوية المقهى، وحاولت المقاومة بصوت عالٍ، وتطلعت بأسى إلى خدم المقهى الذين كنت أعتقد أنهم أصدقائي لكنهم أشاحوا بوجوههم عني، كمن يقول: “لا صداقة مع مومس”.

ساقوني إلى الدائرة كمن يقوم بعمل بطولي، ولم أتوقف عن توجيه اللعنات، وكان الرقيب يلكمني قائلا: “هذا ما يأتينا من الوطن الأم وبلاد القديسة فاطيمة هذه الأيام، مومسات ومتمردات”. تلك الليلة عدت مع فابيوس إلى منزله، السامري الطيب، لكن بدلا من أن أفرح بهذا المنقذ من السماء، شعرت بالنفور: هل أقبل عطف فابيوس أم أنتظر حب خواكيم؟ هل أسلم مصيري للمدير  العام (للشرطة) الوجيه الأسمر الممشوق مثل حاملي أوسمة الحروب؟

تداولت في الأمر طبعاً مع ألكسندرا، إذ إنني دائماً أطرح الأسئلة المعقدة على ألكسندرا قبل أن أطرحها على نفسي؟ إذا اخترت خواكيم فماذا أفعل بألكسندرا؟ أأتركها في حيّ المتروبول وأسافر أنا إلى نيويورك؟ وماذا لو كان خواكيم صادقاً إلى إبعد حد؟ لكنها كانت ليلة عاطفية لن يلبث أن ينساها في أعالي المحيط.

إقرأ أيضاً: ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس(1)

لم يكن الخيار صعباً فقط، بل قاسياً أيضاً، رجل محترم طيب بعرض عطفه، ورجب نبيل مثل أمراء البحر يعرض حبه وشبابه، وكالعادة جاء الحل الحاسم من ألكسندرا، فقالت: “واضح أن قدرنا ألا نكون سعداء. لن يضمن لك حياة خارج مذلات المتروبول سوى فابيوس. دعي قلبك جانباً، فنحن علينا لعنة أبي خيانة الكنيسة، وفابيوس هو التوبة والخلاص”.

تململت صوفيا على الكنبة إلى جانبي ومدت يدها بصورة عفوية تبحث عن سيجارة ناسية أنها أقلعت عن التدخين، ثم، وكأنها فقدت القدرة على البقاء صاحية، انحنت وألقت برأسها على حضني.

الحلقة الثالثة والأخيرة: مشهد الغروب الكئيب.. وشهر عسل يتأخر 50 سنة

مواضيع ذات صلة

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…