ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس(1) 

مدة القراءة 8 د

ينشر “أساس” المقاطع الأخيرة من قصة سمير عطاالله الباهرة التي نشرها في “النهار” قبل أن يحوّلها إلى رواية. ويلي نشر هذه المقاطع مقتطفات من الرواية في حلقتين.

 

عندما تزوجتْ ميموزا بعد سنوات قليلة من عودتنا (من لوندا) إلى البرتغال، انتقلت للعيش مع زوجها في دوس سانتوس. وانتقل عمي فابيوس إلى هناك أيضاً ليكون قريباً منها. وعاش سنواته الأخيرة سعيداً مثل كنار جول رينار، يلاعب أولادها ويروي لهم ذكرياته في لواندا. وكانت هي وزوجها وأبناؤها ينادونه بأحب كنية لديه:  Papa Fabius . ولعل ذلك كان يعوضه عن حياة العزوبية التي عاشها من أجلنا، وخصوصاً من أجل ميموزا. فقد كانت العودة من لواندا صعبة جداً في البداية. وكان الجميع ينظرون إلينا في حذر، وأحياناً في اضطهاد.

هذه السنة سقط عهدي على نفسي بألا أخرج من إيستوريا دي ليبرداد مرة اخرى. اتصلت ميموزا أسابيع قبل رأس السنة بلهجتها الآمرة المدللة، وقالت لي، سوف تخرج من عزلتك رغماً عنك هذا العام. الأولاد يصرون على تذكّر مرور السنة الأولى على غياب فابيوس. وقد دعوا جميع أفراد العائلة، وأصدقائهم وصديقاتهم، وأرباب عملهم واساتذتهم القدامى، وكل من عرفه. لا يمكن أن تغيب.

كان صوت آماليا يأخذنا إلى كل مكان: أفراحنا وأحزاننا وصرخات الحب اليائس

برغم ما تعنيه لي ميموزا وعائلتها، وبرغم ما تعنيه ذكرى فابيوس، ترددت كثيراً. أصبح السفر يتعبني بمجرد أن أفكر فيه، والتحدث إلى معارف جدد يشعرني سلفاً بالملل. كلما كبر الإنسان، صغر عالمه وضاق. وكلما زاد عدد السنين قل اعترافه بها. الاحتفال بالسنة الجديدة، في مثل سني، يؤكد أنك إنسان قديم. وماذا يمكن أن يتمنى الناس لك؟ الجميع يطرحون سؤالاً واحداً: كيف صحتك. وعندما تجيب أنها جيدة، يطرحون السؤال من جديد، كأنهم لا يصدقون ما تقول. جميع الإهانات تقال بالكثير من التهذيب والعطف، كما يقول جول رينار. أو لعله فرناندو بيسوا. أو لعله أنا. لعله ولعلّ. والذاكرة تتعب وتتأنى. وتنؤ، مثلها مثل الأكتاف التي تهزّها إلى فوق، علامة اللامبالاة. وبعد عمر معيَّن، تهز كتفيك لجميع الأشياء. لا يعود لك التجلد حتى على قول ذلك بالكلام.

كانت ميموزا في انتظاري على رصيف الميناء. وكعادتها راحت تكمل حديثاً كأنه بدأ أمس مع أننا لم نلتق منذ وقت طويل. واعتذرت بسرعة عن عدم مرافقة البنات لها: “إنهنَّ يعددن العشاء مع رفيقاتهنّ”. ثم، أيضاً كعادتها منذ كانت طفلة، انهالت علي بالتأنيب: “متى ستخرج من عزلتك السخيفة وتعود إلى الحياة، ألم تعلمك السنون بعد أن العمر بضع لحظات جميلة والباقي تشبيه بالحياة؟ عناء وتعب ولا شيء. ثم مكدسات منه. أي اللاشيء”.

لا شيء يغّير ميموزا. وقد كبرت وصارت أماً ولها ثلاث بنات في مثل جمالها، لا تزال طفلة العائلة. الطفلة التي غاب والدها عن الحياة قبل أن تتعلم كيف تناديه باسمه. سألتها في الطريق إلى المنزل “كيف حال الثلاثي الجميل”؟. “لن تعرفهنَّ. كبرن وأصبحن كانهن من عمر واحد. آه وسوف تتعرف اليوم على لارا أندريا ريبيرو، مذيعة القناة الثانية في لشبونة، فقد دعوتها إلى الحفل”.

عبرنا المدينة في جو احتفالي. وقد مضى عليّ الآن زمن لم أسمع صخباً أو أرى حشداً. وبرغم الفصل كان الطقس ربيعياً مضيئاً بشمس غير مرتفعة.  وعندما وصلنا إلى منزل ميموزا كان المدعوون في الحديقة يتمتعون من هذه الهضبة الجميلة بمنظر دوس سانتوس وسطوحها القرميدية ومينائها التاريخي، الذي يقال إن القراصنة كانوا يخبئون فيه كنوزهم المسروقة.

قدمتني ابنة ميموزا الكبرى إلى الحضور. ولم تنتظرلارا أندريا أن نصل إليها، بل اندفعت نحونا يسبقها عطر ويتبعها عطر، قائلة: “دعني أقدم نفسي”. تقدمين نفسك يا لارا أندريا؟ أنا لا أنام قبل أن ترسلي إليّ التمني بليلة سعيدة. قالت لارا اندريا: “كم كنت أتمتع بقصائدك للاطفال من الإذاعة عصر كل أحد. ثم قيل فجأة إنك انقطعت عن الكتابة. هذا عمل سيء تجاهنا وتجاه الصغار من بعدنا”.

انصرفت ابنة ميموزا إلى الضيوف الآخرين، وبقيت لارا أندريا لي. وفي صوت مرتفع، كأن لا أحد سوانا في المكان، راحت تذكرني بعناوين تلك القصائد التي لم أعد أذكرها: “لون العسل في مروج ماديرا” و “الكابتن دلغادو يسلم سفينته للحرية والريح” و”العشاق يختبئون في مراكب نهر التاجو”.

ثم كدت أبكي عندما استندت لارا أندريا إلى سياج الحديقة وراحت تتلو من الذاكرة:

“أيتها المروج التي بلون عيني حبيبتي،

“أيها الصنوبر الأخضر مثل عيني حبيبتي،

“أيها الليل الفاحم مثل عيني حبيبتي،

“يا مرافىء البرتغال، أعيدي إليّ حبيبتي”.

ضحكت لارا أندريا: “ما رأيك في ذاكرتي؟”. كانت النشوة لا تزال تهزني وأنا أتأمل عينيها.  “كأن هذه القصيدة كُتبت لكِ، قبل أربعين عاماً”.

لطالما كانت نجمة الصبح حارستي منذ أيام الطفولة في لواندا. وقد كتبت لها عشرات قصائد الأطفال

وأخذتُ أغرق في هذه المخلوقة النازلة من الغمام. ثم أخذت أرتجف كما حدث لي في حب الخامسة عشرة في لواندا. لماذا أسقط دائماً في حب يمنغ على حتى البوح به؟ من أي غابة جاءت هذه الرموش؟ ماذا تفعلين في خريفي يا لارا أندريا، أنت وعذوبتك وآهات آماليا رودريغز؟ وإلى أين أذهب من هنا بعد اليوم، وكيف يمكن أن تتسع إيستوريا دي ليبرداد الصغيرة لعزلتي؟ ما هذا القدر الذي يرسل بهجة مثلك ألى حضن خشبي جاف؟

كان صوت آماليا يأخذنا إلى كل مكان: أفراحنا وأحزاننا وصرخات الحب اليائس. فيه نحلم وفيه ندفن أحلامنا. وفي دفء حنجرتها المقدسة تُشعرُ آماليا كل برتغالي أنها تغني له وحده، سواء سكر فرحاً أو كآبة، بدأ قصة حب أو أنهته قصة. وها صورتها تحضر إلى هذه الحديقة مع جميع أحزان البرتغال. هي وقصائد فرناندو بيساوا وتمرد دلفادو ومنتحرو نهرالتاجو في القصص الحزينة.

بدأنا نشعر بالبرد. لكن لارا أندريا أصرت على البقاء في الحديقة: “إنها ليلة لن تتكرر. ابق أنت هنا وسوف أدخل وأعود بما يكفي من الصوف”. وكان الليل يتسارع في سدوله ويلف الأودية وسهول اللافندر وطبقات البحر خلف الميناء وأضوائه الشاحبة، وكأنما تكاثرت عجائب الأرض والسماء هذه الليلة، فظهرت من الضباب نجمة الصبح بشعاعها الدائم. وبعد قليل تبعها قمرها. وازددتُ قرباً من لارا أندريا خائفاً أن يخطفها مني أحد.

لطالما كانت نجمة الصبح حارستي منذ أيام الطفولة في لواندا. وقد كتبت لها عشرات قصائد الأطفال، هي وغيرها من النجوم السارحة في الأعالي. لكن “فينوس” كانت نجمتي الوحيدة. إلى مشاعري يدخل ضؤها القوي. وأحس أنها رفيقة من الماضي. ولطالما أضاءت عليّ، ليس بالنور فقط، بل أيضاً بالشعر والفرح.

خرجت ميموزا الى الحديقة وقالت بين المزاح والتأنيب: “على العاشقين أن يقطعا هذه الخلوة. حان وقت العشاء”. وألقت ابنة ميموزا الصغرى كلمة تحدثت فيها عن فابيوس، الأب البديل، وشعرتُ باعتزازعندما نقلت من قصيدتي، “العودة”، هذه الأبيات: “لقد عدتُ إلى تراب البرتغال، أنا ملاح المحيطات وخيّال الأرض. عدت يا ماريا ماغدالينا بوشاحك الأسود المطرز بالذهب لنغني معاً للقلاع المنعزلة، الباقية على جهات الأرض”.

صفق الجميع. وشربوا نخب العم فابيوس. وازدادت لارا أندريا اقتراباً، عيناها مثل مطرتين من الماس . ثم راحت تداعب باناملها الشعر الأبيض على عنقي. وبدا المشهد طبيعياً للحضور كأنه يتكرر منذ مائة عام. أو كأنه موضوع الحفل. ثم شبكت لارا أندريا يدها في يدي ونفخت في عروقي ذلك الدفء الأسطوري الذي يقال إن نهر التاجو يمنحه للعشاق الجدد. وتطلعتُ بزاوية عين جول رينار فوق يدها فرأيت من تحتها عروقي الخضراء الضخمة وآثار انفجارات الستين فيها. وأعادني إلى طفولتي، يوم كنت أتأمل وأنا عائد من المدرسة، رواد المقاهي في لواندا وهم يلعبون الورق، وظاهر يد كل منهم، منتفخة بالعروق والعمر والضجر الطويل. وكأنما شعرت لارا أندريا بكل ما أفكر فيه، فمسحت خدي براحة يدها الصغيرة. وكانت ميموزا قد وضعت أغاني آماليا. وتفرق المدعوون في المكان. وبقينا جالسين: “هل تذكرين، لارا أندريا، ماذا قال إيفان لحبيبته في “الإخوة كارامازوف”؟ “غروشنكا، إنني أعطي حياتي من أجل سنة أو شهر أوساعة أو ثانية من حبك”.

إقرأ أيضاً: سمير عطالله المتعدّد الحساسيات: يروي آلام لبنان بالبرتغالية..

كانت الساعة قد أصبحت منتصف الليل. وامتلأت سماء الجزيرة بالمفرقعات. وأطلقت السفن الراسية في الميناء أبواقها. وقام الجميع إلى الرقص. وضعت لارا أندريا رأسها فوق كتفي. وقلتُ هامساً: “والآن؟ الآن سوف تعودين غداً إلى عطرك وشبابك، وأنا أذهب إلى أين؟ أجمل الأحلام أقصرها. تذكري دائماً ما قاله إيفان لغروشنكا”.

 

الحلقة الثانية: الحياة بحّار مشتاق ومومس للإيجار

مواضيع ذات صلة

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…