تأخذنا رواية سمير عطاالله “ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس” (منشورات “الدار العربية للعلوم”، 2022) في رحلة مشوقة إلى عالم البرتغال وثقافته. ولكتابة هذه الرواية قصة غريبة: تعوّد عطاالله قبيل رأس كل سنة جديدة على أن تتضمّن مقالته الأسبوعية في صحيفة “النهار” البيروتية عرضًا لأهم أحداث السنة المنصرمة. لكنه رأى أن سنة 2021 “أتت خاوية من أي شيء له معنى أو أهمية، أو مستوى، لذا قرّرت – يكتب – ألّا أزيد من أسى الناس وأستعيد لهم ما يكرهون أن يتذكروا”. لكن “ماذا نكتب؟” تساءل، وأجاب: “قطعةً أدبيةً والناسُ يعيشون الآلام؟ قصة حبّ وأنت أيها الأبله في الثمانين؟ مقالًا عن آمال السنة الجديدة، وسط كل الأسماء القديمة الغارقة في الصدأ؟”.
قصة منحولة تتحوّل رواية
أخيرًا انتحلَ عطاالله صفة مترجم عن اللغة البرتغالية، واختلقَ اسم كاتب برتغالي لا وجود له، وكتب باسمه بالعربية قصة وحمّلها ما شاءَ “من حبّ وعشق” ملتاعين في كهولته، ونشرها مكان مقالته الأسبوعية، باعتباره مترجمها. لكنه ذُهل بتعليقات منها للكاتب الصحافي جهاد الزين الذي اعتبر أن النص المنشور “يستحيل أن يكون مترجمًا”. فيما اقترح الشاعر عبده وازن تحويل القصته إلى رواية، ففعل عطاالله. وأبصرت النور روايته المثيرة “ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس”.
وحين يتساءل: “لماذا البرتغال؟”، بجيب في مقدمة الرواية: “لأن (لغتها) غنائية، ولأنني عشت شبابي على أغاني فيروز وأغاني (المغنية البرتغالية) أماليا رودريغز وأحزان الفادو. والآن في حالة الحزن هذه (بلبنان)، تخطر في البال آماليا والبرتغال ونهر التاجو وشعر (شاعر البرتغال الكبير) فرناندو بيسوا، و… رأس السنة”. وربما من الضروري أن نعلم أن صاحب هذه الرواية أمضى معظم حياته منذ شبابه الأول “رحّالة يطوف في مدن العالم وثقافاته”، أقله منذ ستينات القرن العشرين، مُستطلعًا مُتقصِّيًا كصحافي حوادثه السياسية الأساسية. إضافة إلى أنه “قارئ شغوف ومخطوف بجماليات الأدب الأميركي اللاتيني والأوروبي والعالمي”، وكاتب متعدد الحساسيات والأساليب الكتابية.
على قدر معرفته بتاريخ لبنان وشؤون أهله وشجونهم ومآسيهم، يبدو سمير عطالله في روايته البرتغالية على معرفة واسعة بتاريخ البرتغال الاستعماري في أفريقيا، وبروح الشعب البرتغالي
وعلى نحو ما ختم الأخوان رحباني مسرحيتهما الغنائية الشهيرة “بياع الخواتم” في الستينات اللبنانية التي عاش عطالله شبابه فيها شغوفًا بصوت فيروز وأغانيها، بقولهما إن “لا ضيعة (بياع الخواتم) موجودة، ولا القصة (قصتها التي روتها المسرحية) صحيحة”، كتب عطالله بدوره في مقدمة روايته أن لا الكاتب البرتغالي الذي انتحل اسمه في قصته موجود، ولا الجزيرة التي جعلها مسرحًا للقصة والرواية تاليًا موجودة، بل هما صنيع خياله وانتحالاته على طريقة شاعر البرتغال الكبير بيسوا الذي انتحل عشرات الأسماء لتوقيع قصائده ونشرها.
فيروز وآماليا
وكما صوت فيروز وأغانيها يشكلان إيقاعًا أو صدىً خلفيًا لحياة فئات واسعة من اللبنانيين ومخيّلتهم العاطفية والوطنية منذ أواسط خمسينات القرن العشرين، وأقله حتى نهايات الحروب الأهلية (1975- 1990) وما بعدها بسنوات تلامس مطلع الألفية الثالثة، يشكل صوت مغنية البرتغال آماليا رودريغز وأغانيها الحزينة حزنًا جارحًا إيقاعًا خلفيًا دائمًا لرواية عطالله البرتغالية التي قد يكون الحزن الذي يشوبها كناية عن أحزان اللبنانيين في فصول تاريخهم الحديث.
وعلى قدر معرفته بتاريخ لبنان وشؤون أهله وشجونهم ومآسيهم، يبدو سمير عطالله في روايته البرتغالية على معرفة واسعة بتاريخ البرتغال الاستعماري في أفريقيا، وبروح الشعب البرتغالي بعد نهاية الاستعمار القديم، وعودة جالياته من لواندا إلى موطنها الأم، محمّلةً بجراح مقيمة لا شفاء منها، لتعيش حقبة الديكتاتورية العسكرية في البرتغال، قبل ثورتها على تلك الديكتاتورية. و”هكذا يبدو جميع الرجال صباح الأحد (في جزيرة دوس سانتوس وبلدة إيستوريا دي ليبرداد في رواية عطاالله) عندما يرتدون الأطقم الكحلية التي لا زالوا يحتفظون بها من أيام أفريقيا، يوم كان بلدنا شريكًا في استعمار العالم والمتاجرة بثرواته”، على ما يروي بطل الرواية والذي سمع – عندما كان يحتفل بعيد ميلاده الـ15 مع أصدقائه وأساتذته – “مجموعة من الصبية والبنات (في لواندا) يهتفون: عودوا إلي دياركم إيها البرتغاليون، أيها البيض الملاعين”. ولما أغلق عمه – وهو مدير الشرطة الاستعمارية في المستعمرة الإفريقية – باب البيت، نادى أم المحتفى بعيد ميلاده وقال لها: “انسي قالب العيد، ولنبدأ جميعًا بإعداد حقائب الرحيل (…) وسوف تُعلنُ نهاية الإمبراطورية البرتغالية من هنا بسبب النفط. فأعدّوا أنفسكم لذلك اليوم. (…) وكنا نعرف أن اليأس سوف يقرع جميع أبواب البيض في أنغولا (…) فنحن غرباء، وحتى اللغة البرتغالية لا نجيد لفظها” فيما نحن نُرغم على العودة إلى الوطن القديم البرتغال الذي نعرفه. وأهله “يكابرون في بلدهم الذي صار فقيرًا، ويهاجرون منه ونساؤهم يعملن خادماتٍ في بيوت أوروبا”، فيما ناسه ينتمون “جماعات إلى الحزب الشيوعي”. وفي البرتغال الذي عادت إليه جالياته من لواندا، وراحت تبحث عن حياة جديدة من الصفر، ظل “الحنين إلى لواندا طاغيًا على كل خطواتنا”.
والفتى العائد مع العائدين ظل عازبًا في البرتغال، يكتب “الشعر للأطفال وقصائد لأغاني الحب والنساء. وعندما غنّت آماليا بعض قصائده، حملت اسمه إلى كل مكان فيه لغة برتغالية وألحان الفادو”. وعندما اكتهل وتقاعد عازبًا ومنعزلًا في بلدة هادئة، تساءل: “لماذا أكتب هذا كله الآن؟ لأنني ولدتُ تحت برج الخيبة”، يجيب.
لقاءات رأس السنة والحرية
من خيبة الكهولة تنطلق رواية عطالله البرتغالية على خطين متداخلين:
– قصة الشاعر المكتهل، المتقاعد والمنعزل – الذي “يشعر بالملل، لأن الإنسان كلما كبر، كلما صغر عالمه وضاق – ولقائه بالصبية الفاتنة التي كانت طفلة تستمع إلى أشعاره من أثير الإذاعة. وكان لقاؤه الأول بها في سهرة رأس السنة التي دعته إليها شقيقته، فإذا به يهيم بها ذاك الهيام المستحيل: تعلُّق كهلٍ بفتاة أحلامه في شبابه الراحل. وقد يكون في هذا التعلُّق الهيامي شيء من ما تغنّيه فيروز في أغنية “ليالي الشمال الحزينة” أو أغنية “شادي الذي ظل طفلًا يلعب على الثلج”.
– الخط الثاني في الرواية مرجعه أو مصدره الروح البرتغالية. والأحرى الشتات العائلي بين لواندا والبرتغال الاستعمارية وما بعد الاستعمار: خليلة عمه (مدير الشرطة في لواندا) وهي بائعة هوى هناك وأنقذها العم من عملها هذا وأواها، قبل أن يتركها في نهاية الحقبة الاستعمارية ويعود إلى البرتغال ويموت فيها. وعلى متن مركب العودة من جزيرة حفلة رأس السنة إلى لشبونة، يتعرّفُ المتيّم الكهل بخليلة عمه صوفيا، التي كانت مدعوة إلى الحفلة، فتروي له قصة حياتها بين لواندا والبرتغال. ثم تقحِمُ نفسها في حياته المنعزلة، وتقاسمه منزله وفراشه، كأنها مسكّنةُ آلام هيامه المستحيل بالشابة التي التقاها في منزل شقيقته ليلة رأس السنة.
وتنتهي الرواية بمجيء بحارٍ أميركي بورتوريكي إلى البرتغال، باحثًا عن صوفيا التي كان التقاها في لواندا، وأمضى ليلة واحدة معها ووعدها بالعودة إليها بعد رحلته البحرية، للزواج بها واصطحابها إلى أميركا. يتحقق هذا الوعد بعد سنوات كثيرة على ذاك اللقاء اليتيم. وتتزوج صوفيا بحارها القديم ويغادران إلى بروكلين، ويعود الشاعر الكهل الذي أقامت في منزله وقاسمته فراشه، إلى عزلته من جديد. وحين يفكر أحيانًا “كيف أن صوفيا لم تترك ذلك الفراغ الذي كنتُ أخشاه، أبتسمُ. فأتذكّر قميصها القطني الأبيض، فيُخيّل إليَّ أن خواكيم (زوجها البحار) لن يختم شهر العسل أبدًا، وأشعر بفرحٍ من أجلها. تشتُّتٌ في المدن والبلدان والأديرية، وأخيرًا منزل عائلي، ولو في الحي البورتوريكي في بروكلين”.
وفي المشهد الأخير من الرواية، تظهر فجأة صوفيا الحامل بتوأمين إلى جانب الشاعر الكهل في لشبونة وسط “تدفّق الحشود في الشوارع مثل الفيضان (الذي) يهتف للحرية في (ثورة القرنفل) 26 نيسان (1974). وجاءت آماليا (…) وأشعلت الساحة وهي تردّد أغنيتها الأشهر: بيت في البرتغال”.
إقرأ أيضاً: نقاش مع زميلين كبيرين
والبارز في هذه الرواية – إلى جانب معرفة عطاالله الواسعة والحية بتاريخ الرتغال وروح شعبها وطبيعتها، وتربكيبه شخصيات روائية من هذه العرفة – هناك تأملاته الثاقبة في الحب والشغف والشيخوخة وانطواء الأعمار والزمن. وهذه كلها تشكل خطاً رئيسياً في الرواية وتضفي عليها مناخاً دراميًا حياً بطعم برتغالي.
*ينشر “أساس” غداً وتباعاً حلقات ثلاث تضم مقتطفات من رواية عطا الله.