الفارق بين احتلالين في لبنان

مدة القراءة 5 د

يُفترض في اللبنانيين الاعتراف بأنّ ذكرى الثالث عشر من نيسان 1975 ليست ذكرى وحسب استطاعوا تجاوز تفاعلاتها. ما زالت هذه الذكرى ماثلة وحيّة أكثر من أيّ وقت مضى فيما يتهاوى البلد، وفي حين بات مصيره في مهبّ الريح.

ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم قبل 47 عاماً أنّ مجموعة فلسطينية مسلّحة كانت في شاحنة ركّاب كبيرة (بوسطة) تمرّ في منطقة عين الرمّانة المسيحيّة القريبة من بيروت. أطلق مسلّحون، كانوا مستنفرين في تلك المنطقة نتيجة اغتيال أحد المواطنين المسيحيين فيها، النار على مَن في البوسطة. قُتل معظم هؤلاء. يومذاك، بدأت الحرب رسميّاً بمشاركة فلسطينية واسعة وفي ظلّ وجود ميليشيات لبنانيّة مسيحيّة وإسلاميّة. لم يبقَ حزب صغير إلّا وأسّس تنظيماً مسلّحاً خاصّاً به. كان التمويل يأتي إلى الجميع من أماكن مختلفة، معظمها دول إقليميّة، وكانت الأسلحة السوريّة المصدر، في معظمها، تذهب إلى المسيحيين والمسلمين والفلسطينيين في الوقت ذاته.

لا تزال الأسئلة المتعلّقة بمَن نفّذ جريمة اغتيال مواطن مسيحي في تلك المنطقة (عين الرمّانة) لغزاً. مَن طلب من سائق “البوسطة”، التي كانت تقلّ المسلّحين الفلسطينيين، المرور في مكان وقوع الجريمة بالذات، مباشرة بعد حصولها، ليس معروفاً إلى يومنا هذا. هل بدأت الحرب اللبنانيّة التي تحوّلت إلى حروب بين اللبنانيين وبين آخرين على أرض لبنان صدفة… أم كان المسرح معدّاً أصلاً للدخول العسكري السوري إلى لبنان بغية تحويله إلى محميّة لدى دمشق بتخطيط من النظام الذي أسّسه حافظ الأسد في العام 1970؟

بين 13 نيسان 1975 و13 نيسان 2022، تغيّرت أمور كثيرة ولم يتغيّر شيء. ما تغيّر أنّ لبنان لم يعُد لبنان. انتقل من سيّئ إلى أسوأ، من احتلال سوري… إلى احتلال إيراني. كان الاستثناء محاولة يتيمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإعادة وضع البلد على خريطة المنطقة. قام رفيق الحريري بتلك المحاولة. دفع الحريري ثمن ما قام به من دمه. دفع حياته ثمناً لإعادة الحياة إلى بيروت كي تكون عاصمة لبنان مساحة حضارية تجمع بين اللبنانيين من كلّ المذاهب والطوائف والمناطق وكي تكون مدينة يقصدها العرب، كلّ العرب.

ما لم يتغيّر أنّ السلاح غير الشرعي لا يزال صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في لبنان، وذلك بعدما اختزل “حزب الله” كلّ الميليشيات اللبنانيّة، وبعدما تكرّس الفراغ على مستوى رئاسة الجمهوريّة، بل زاد حجمه. زاد حجمه إلى درجة أنّ إيران صارت تقرّر من هو رئيس الجمهوريّة في لبنان بعدما كانت سوريا تفعل ذلك ابتداء من العام 1989، عندما تخلّصت من رينيه معوض الذي انتُخب مباشرة بعد إقرار اتفاق الطائف.

بعد كلّ تلك السنوات التي مضت منذ العام 1975، والتي تخلّلها اجتياح إسرائيلي في العام 1982، يبقى من التاريخ الحديث للبنان ذلك السقوط المسيحي الذي بدأ في العام 1970 مع حلول سليمان فرنجيّة الجدّ في موقع رئيس الجمهوريّة، وهو سقوط يجسّده حالياً وجود ميشال عون في قصر بعبدا. هناك الآن رئيس للجمهوريّة لم يدرك إلى اللحظة معنى انهيار النظام المصرفي في لبنان، كما لا يريد أن يعرف شيئاً عن ظروف تفجير مرفأ بيروت أو عن أسباب انعدام وجود الكهرباء في لبنان. لا يريد أن يسأل نفسه لماذا لم يعد هناك عربي يهتمّ بلبنان؟ ولماذا لم يعد هناك حضور لبناني في أميركا وأوروبا؟

لعلّ أخطر ما حدث على الصعيد اللبناني منذ وصول سليمان فرنجيّة إلى رئاسة الجمهوريّة بعد أقلّ من سنة من توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم مع منظمة التحرير الفلسطينيّة في تشرين الثاني 1969، ذلك الجهل اللبناني بما يدور في المنطقة والعالم. لم يعد في لبنان من يريد أخذ العلم بمعنى وصول حافظ الأسد إلى موقع الرئاسة في سوريا كأوّل علويّ يحتلّ هذا المنصب. كان على حافظ الأسد المزايدة باستمرار على الفلسطينيين مستخدماً حزب البعث وشعاراته المتخلّفة غطاء لرغبته في تحويل سوريا لاعباً إقليمياً. كانت السيطرة على لبنان حلقة أساسيّة في هذا المشروع الأسديّ الذي أخذ بعداً جديداً مع الحلف الذي أقامه النظام السوري مع إيران الخميني، خصوصاً بعد اندلاع الحرب العراقية – الإيرانيّة في العام 1980.

دفع لبنان غالياً ثمن العجز المسيحي عن فهم ما يدور في المنطقة، خصوصاً معنى التحوّل الكبير الذي حصل في سوريا مع الأسد الأب، وصولاً إلى بداية التحوّل الآخر مع الأسد الابن، وهو تحوّل في طبيعة العلاقة بين دمشق وطهران.

من الأسد الأب الذي خلفه الأسد الابن في العام 2000، انتقل لبنان من الاحتلال السوري إلى الاحتلال الإيراني. يجمع بين الاحتلالين ذلك العداء ذو الطابع المرضيّ لأهل السُنّة في المنطقة وللمدينة العربيّة عموماً. العداء لبيروت وطرابلس ودمشق وحلب وحمص وحماة وبغداد والبصرة والموصل…

صحيح أنّ حافظ الأسد كان أوّل من وقع في الفخّ الإيراني عندما أدخل “الحرس الثوري” إلى الأراضي اللبنانيّة صيف العام 1982، لكنّ الصحيح أيضاً أنّه حاول مرّات عدّة أن يبقى صاحب الكلمة الأولى في لبنان. نجح في البداية وما لبث أن فشل بعدما سيطر “حزب الله” على الطائفة الشيعية إثر انتصاره على حركة “أمل” المحسوبة على النظام السوري في حرب إقليم التفاح أواخر ثمانينيّات القرن الماضي وبداية التسعينيّات منه.

كان وصول بشّار الأسد إلى الرئاسة الخطوة الأولى في طريق انتقال لبنان من الاحتلال السوري إلى الاحتلال الإيراني المباشر إثر اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط 2005 وخروج الجيش السوري من لبنان في 26 نيسان من العام نفسه.

إقرأ أيضاً: انتخابات التمديد لـ”العهد القويّ”… ولو بالفراغ

يعيش لبنان حالياً في ظلّ احتلال لا همّ لديه سوى إفقار اللبنانيين وتيئيسهم. في المقابل، لم يكن لدى الاحتلال السوري مثل هذا الهمّ بمقدار ما كان يعتبر لبنان بقرة حلوباً يسعى إلى الاستفادة من خيراتها إلى أبعد حدود.

بالنسبة إلى إيران، كلّما زاد لبنان فقراً، زاد رضوخه لها. ذلك هو الفارق بين احتلالين في ظلّ غياب مسيحي، على كلّ صعيد، غياب يدعو إلى الشفقة أكثر من أيّ شيء آخر…

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…