أوكرانيا: بوتين أرجع أميركا لـ”قيادة العالم”

مدة القراءة 5 د

الجغرافي الفرنسي الشهير إيف لاكوست هو من أعاد إطلاق علم الجيوسياسة في فرنسا في سبعينيّات القرن الماضي. فأطلق مجلّة Hérodote، وأسّس “المعهد الجيوسياسي الفرنسي”. بعد الحرب العالمية الثانية مُنع تدريس الجيوسياسة. اعتبر الحلفاء أنّ نظريّاتها كارثيّة، وأنّها سبب أساسي في اندلاع الحرب بسبب تأثّر الزعيم النازي أدولف هتلر بنظريّات مؤسّس هذا العلم الألماني كارل هاوسهوفر.

في محاضراته عن الجيوسياسة، التي تابعتها على مدى سنة في باريس، كان يشدّد لاكوست على أنّه لا يمكن توقّع خطوات أو ردّات فعل الأنظمة الديكتاتوريّة (والتنظيمات المسلّحة بالطبع) في الصراعات، على خلاف الأنظمة الديمقراطيّة. صحيح أنّ لهذه الأنظمة الديكتاتوريّة مصالحها وحساباتها الإقليميّة والدوليّة، لكنّ الديكتاتور يتّخذ أحياناً كثيرة قراره ضارباً بعرض الحائط تلك المصالح والحسابات، ويُكمل به على الرغم من الفشل والخسارة.

بوتين اليوم في مأزق كبير. فهو يراكم الخسارة بعد الخسارة. فقد عُلّقت عضويّة روسيا في مجلس حقوق الإنسان. وهي المرّة الثانية التي يخسر فيها بوتين تصويتاً أمميّاً

أمام المشهد الروسي – الأوكراني، أتذكّر كلمات أستاذي إيف لاكوست. قرّر فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا ضارباً بعرض الحائط حسابات الربح والخسارة التي حاول تقديمها له الأمنيّون والعسكريون والاقتصاديون وغيرهم. مشهد ارتباك سيرغي ناريشكين، رئيس المخابرات الخارجيّة الروسيّة، هو أكبر تعبير عمّا نقول. عدت إلى الفيديو الذي انتشر. يبدو واضحاً أنّ الرجل كان يودّ القول لرئيسه “بوتين” إنّه لا يدعم الاعتراف بجمهوريّتَيْ دونيتسك ولوغانسك. لكنّه لم يجرؤ. أجبره بوتين، ببسمة ساخرة، على أن يقول ما رغب بسماعه وليس ما لديه من معلومات ومعطيات عن تداعيات مثل هذه الخطوة على الصراع مع الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

بوتين اليوم في مأزق كبير. فهو يراكم الخسارة بعد الخسارة. فقد عُلّقت عضويّة روسيا في مجلس حقوق الإنسان. وهي المرّة الثانية التي يخسر فيها بوتين تصويتاً أمميّاً. وهذا يؤكّد خسارته السياسية على مستوى العالم. ومنذ أيام استهدفت مروحيّات أوكرانية منشآت نفط في عمق الأراضي الروسيّة. وهي إشارة إلى تحوّل مهمّ في الحرب. ويشير سحب قوّاته من محيط كييف إلى تراجعه عن قرار إسقاط النظام فيها. ويبدو أنّه تراجَع عن قراره بيع الغاز بالروبل. وهو في الأصل قرار فاجأ الاختصاصيين في عالم المال، وأكّد لهم أنّ بوتين في مأزق سياسيّ وعسكريّ. وسوف تكون مشاهد الضحايا في بوتشا، التي أثارت الرأي العامّ الدولي، كرة ثلج تهدّد بتقديم مسؤولين في الكرملين، وربّما سيّده، إلى المحكمة الجنائية الدوليّة لو أنّ البعض يقوا أنها مفبركة.

في الواقع بدأت خسارة بوتين للحرب في أوكرانيا قبل أن يبدأها.

كيف؟

1- أطلق على غزوه تسمية “عمليّة عسكريّة خاصة”، وحدّد أهدافه بـ”نزع سلاح أوكرانيا وإزالة الطابع النازي عنها”. وأضاف وزير خارجيّته أنّ روسيا “ستفعل كل ما بوسعها لضمان استقلال الحكومة الأوكرانية، و(قدرتها على) تمثيل تنوّع الشعب الأوكراني”، وهو ما يعني أنّ الكرملين سيقوم بتنصيب سلطة في كييف. تصرّف بوتين وكأنّه يأمر بتطهير أرض روسيّة من جماعات مسلّحة للقبض على قياداتها وتجريد عناصرها من السلاح. لم يأخذ بعين الاعتبار أنّ أوكرانيا دولة، لها حدودها المعترف بها دولياً، ولها هويّتها الوطنية وقوميّتها. ولم ينتبه إلى أنّ الشعب الأوكراني ينتمي إلى هذه الأرض وهذه القوميّة وسيدافع عنهما. وهذا كان خطأ كبيراً.

منذ أيام صرّح الأمين العامّ لحلف الناتو قائلاً: “قد تستمرّ هذه الحرب لأسابيع، وأيضاً لأشهر، وربّما أيضاً لسنوات”. إذ يعلم أنّ بوتين لن يوقفها لأنّ ذلك يعني سقوطه

2- لم يقدّر الرئيس الروسي شخصية نظيره الأوكراني القياديّة. وهذه صفة مشتركة لدى غالبية الديكتاتوريّين. فهم يستخفّون بأعدائهم. لكنّ خطأ بوتين مضاعف. فهو كان رجل مخابرات. ورجال المخابرات يجمعون المعلومات جيداً عن أعدائهم لمواجهتهم. يبدو أنّه كان يهتمّ فقط بجمع المعلومات عن رؤساء الدول ليحرجهم أمام الصحافة، كما فعل مع المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل التي تخاف من الكلاب.

3- لم يتوقّع بوتين ردّة فعل عسكريّة أوروبيّة – أميركيّة على اجتياحه أوكرانيا. وهذا لم يحصل. لكنّه لم يتوقّع أيضاً أن تقوم هذه الدول بشنّ حرب عليه في ساحة معركة تملك فيها الأسلحة الأقوى: الاقتصاد والمال والإعلام. ربّما استخفّ بها. لم يعتقد أنّها ستصل إلى مستوى تقوّض الاقتصاد الروسي بفرض العقوبات على أشخاص ومؤسّسات، وبحجز احتياطات الدولة الروسية من العملات الصعبة. وقد تطوّرت هذه العقوبات لتفرض حصاراً دبلوماسياً ورياضياً وثقافياً وفنّياً… على روسيا.

4- بالغ فلاديمير بوتين في تقدير قوّته العسكرية. فهو اعتبر أنّ حربه في سوريا أكّدت فعاليّتها وفعاليّة أسلحته وصواريخه وقاذفاته. فوزير دفاعه سيرغي شويغو تباهى أكثر من مرّة بفعاليّة الأسلحة الروسية التدميريّة، وكأنّه يقوم بإعلان دعائي لها. لكن فاته أنّ حربه في سوريا كانت ضدّ ميليشيات غير منظّمة ومنقسمة فيما بينها، لا تملك سوى الأسلحة الفردية والمتوسطة لأنّ واشنطن منعت إمدادها بالأسلحة النوعية. أمّا في أوكرانيا فهو يواجه جيشاً منظّماً يؤازره مسلّحون من الشعب. ويُقدَّر اليوم حجم الدعم العسكري الأميركي له بـ2.5 مليار دولار، هذا عدا عن الدعم العسكريّ الأوروبيّ.

إقرأ أيضاً: الشيشان لن تتكرّر.. القتلى الروس لن يهدّدوا الكرملين..

منذ أيام صرّح الأمين العامّ لحلف الناتو قائلاً: “قد تستمرّ هذه الحرب لأسابيع، وأيضاً لأشهر، وربّما أيضاً لسنوات”. إذ يعلم أنّ بوتين لن يوقفها لأنّ ذلك يعني سقوطه. ويعلم جيّداً أنّ واشنطن لا تريد إيقافها اليوم، فحرب بوتين أعادت تأكيد أحاديّة القطب الأميركي في قيادة العالم.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

مواضيع ذات صلة

تذكّروا كلام الوزير قبل 40 يوماً!

في حمأة الحديث عن تطوّرات لبنان وسوريا، بعد “تخييم” مستعمِرين في مارون الراس، وتوغّل الإسرائيليين في الجنوب السوري، حتى ملامسة مطار دمشق بالنار… وفي زحمة…

فرحة دمشق تبحث عن شمس العرب

سرديّة سياسية واحدة حكمت المنطقة على مدى قرن كامل: إمّا الدكتاتورية، وإمّا الإسلام الراديكالي. منذ باكورة الثنائيّات بين جمال عبد الناصر وسيّد قطب، مروراً بحافظ…

إيران تهدّد قطر… ليسمع الخليج؟

حذف المستشار السابق لفريق التفاوض النوويّ في حكومة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، محمد مرندي، تغريدة ضدّ قطر كان كتبها عبر منصّة “إكس”. تقول التغريدة: “إذا…

إيران “تصدّر” أوهامها إلى الحزب..

ما يدعو إلى القلق والخوف على لبنان قول نعيم قاسم الأمين العامّ الجديد لـ”الحزب” في خطابه الأخير إنّ “خسارة طريق الإمداد عبر سوريا مجرّد تفصيل”….