يحلّ البابا لاون الرابع عشر ضيفاً على لبنان نهاية الشهر المقبل. زيارته هي تحقيق لحلم سلفه الراحل. “عون الأوّل” وجّه دعوة للبابا فرنسيس الثاني، لم يلبِّها كي لا تُفسَّر دعماً لرئيسٍ أوصل البلاد “إلى الجحيم” وسلّم الدولة لـ”الحزب”. اليوم، يلبّي البابا الحاليّ دعوة “عون الثاني” الذي أقسم على إخراج لبنان من “الجحيم” وحصر السلاح بيد الدولة.
إنّه البابا الثالث الذي يزور البلد الصغير بمساحته وشعبه، والكبير بدوره في المنطقة، أقلّه بالنسبة إلى الفاتيكان. قال البابا يوحنّا بولس الثاني: “لبنان أكبر من وطن، إنّه رسالة”. والبابا بندكتوس السادس عشر اختاره لتوقيع الإرشاد الرسوليّ من أجل الشرق الأوسط عام 2012.
من إسطنبول إلى لبنان
يصل البابا لاون الرابع عشر إلى لبنان في 30 تشرين الثاني، آتياً من إسطنبول. هناك سيشارك إلى جانب البطريرك المسكونيّ برثلماوس الأوّل في إحياء الذكرى الـ1700 لمجمع نيقية الذي حدّد “قانون الإيمان” في المسيحيّة. تحوّل اسم المدينة فأصبح إزنيق، وتحوّل مكان انعقاد المجمع فبات مسجداً، لكنّ قانون الإيمان لا يزال كما هو، يردّده المسيحيون كلّ يوم في القدّاس.
كانت الذكرى مقرّرة في أيّار، وهو الشهر الذي انعقد فيه مجمع نيقية عام 325. وكان البابا فرنسيس سيشارك فيها. توفّي البابا في شهر نيسان، فتأجّل إحياء الذكرى التاريخيّة إلى 29 تشرين الثاني، عيد القدّيس أندراوس مؤسّس كنيسة بيزنطية. اعتاد البابوات منذ سنوات إيفاد ممثّلٍ عنهم للمشاركة في المناسبة، كما اعتاد بطاركة بيزنطية إيفاد ممثّلٍ عنهم إلى الفاتيكان للمشاركة في عيد القدّيس بطرس (29 حزيران) مؤسّس كنيسة روما.
تفيد مصادر في الفاتيكان بأنّ عدداً من الكهنة في لبنان وجّهوا رسالة إلى الحبر الرومانيّ تمنّوا عليه فيها إثارة قضيّة الإصلاح ومحاربة الفساد في الدولة
زيارة رسميّة وصلاة
تأتي زيارة البابا لاون تلبيةً لدعوةٍ رسميّة وجّهها الرئيس جوزف عون له في حزيران الفائت. وقد رحّب بها عون في بيان جاء فيه: “الزيارة التي يقوم بها قداسته لوطننا في بداية حبريّته، ليست مجرّد محطّةٍ رسميّة، بل لحظةٌ تاريخيّة عميقة تعيد تأكيد أنّ لبنان، على الرغم من جراحه، لا يزال حاضراً في قلب الكنيسة الجامعة، كما في وجدان العالم، مساحةً للحرّية، وأرضاً للعيش المشترك، ورسالةً إنسانيّةً فريدةً تُعانق السماء وتخاطب ضمير البشريّة”.
الزيارة هي تلبيةٌ لأمنية رؤساء الكنائس الكاثوليكيّة في لبنان أيضاً، وقد بدأت الاستعدادات الكنسيّة لها. يرأس اللجنة المطران ميشال عون بصفته رئيس الهيئة التنفيذيّة لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك. وككلّ زيارةٍ يقوم بها الحبر الرومانيّ، حُدِّد البرنامج بالتنسيق مع الفاتيكان، وهو شبيه ببرامج البابوات السابقين: البداية مع لقاء سياسيّ في قصر بعبدا، ثمّ قدّاس عند واجهة بيروت البحريّة، ولقاء مع الشبيبة في بكركي، وآخر مع الكهنة والرهبان والراهبات في مزار سيّدة لبنان في حريصا.
الجديد في البرنامج زيارة لدير مار مارون في عنّايا، قضاء جبيل. الضريح الذي يزوره الآلاف يوميّاً سيكون خالياً من الزوّار عند زيارة البابا له، باستثناء جمعٍ من الرهبان الذين سيستقبلونه يتقدّمهم الرئيس العامّ للرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة. هدف الزيارة الصلاة عند ضريح القدّيس، والتأمّل في أبعاد حياته النسكيّة، خاصّة الفقر. فالقديس شربل عاش الفقر إلى أبعد الحدود، لم يكن في “قلّايته” (غرفته) أكثر من عباءتين وكتاب صلاة وسراج، وكان يقتات مرّة في اليوم، ويفترش الأرض لينام ساعات قليلة، ويلقي رأسه على خشبة. جسّد شربل في حياته النسكيّة الكنيسة الفقيرة التي أرادها البابا الراحل فرنسيس، وهو الخطّ الذي يُكمل به البابا لاون الرابع عشر.
يصل البابا لاون الرابع عشر إلى لبنان في 30 تشرين الثاني، آتياً من إسطنبول
الإصلاح ومحاربة الفساد
تفيد مصادر في الفاتيكان بأنّ عدداً من الكهنة في لبنان وجّهوا رسالة إلى الحبر الرومانيّ تمنّوا عليه فيها إثارة قضيّة الإصلاح ومحاربة الفساد في الدولة. وهما ملفّان يحثّ عليهما الفاتيكان كما المجتمع الدولي والمؤسّسات الدوليّة منذ ما قبل الانهيار (2019). مع ذلك لا يزال الإصلاح شعاراً، والفساد معشّشاً في الدولة وإداراتها. صحيحٌ أنّ هناك رئيساً جديداً للجمهوريّة ورئيس حكومة ووزراء جدداً لم ينغمسوا في الفساد، لكن لا تزال الطبقة السياسيّة الفاسدة تتحكّم بالبلاد، وأزلامها الفاسدون يتحكّمون بمفاصل إدارات الدولة ومؤسّساتها.
الفقر والهجرة
سيتطرّق البابا في لبنان إلى موضوعين أساسيَّين: الفقر والهجرة، خاصةً أنّه أصدر منذ أسابيع إرشاداً رسوليّاً بعنوان “لقد أحببتك”، وفيه يدافع عن الفقراء والمهمّشين والمهاجرين الهاربين من أوضاعٍ اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ يائسةٍ في بلدانهم.
إقرأ أيضاً: ربع قرنٍ على “نداء” هزّ سلطة الوصاية
يعلم الفاتيكان جيّداً أنّ عدد الفقراء في لبنان تضاعف في السنوات الأخيرة بسبب الفساد في الدولة وتحالف المال والسلطة ضدّ الشعب. ويتابع عن كثب ملفّ الهجرة الذي يُفرِغ لبنان من شبابه، وخاصّةً من المسيحيّين فيه. فقد تراجعت أعدادهم بشكلٍ كبير منذ الحرب وما بعدها. وتراجعت أعداد المسيحيّين بشكلٍ كبير في دول المنطقة، خاصّةً في العقدين الأخيرين. في سوريا لا يشكّلون اليوم أكثر من 3% من السكّان، وفي العراق بضع عشرات الآلاف، وفي فلسطين بضعة آلاف. وهذا أكثر ما يُقلق الفاتيكان.
لمتابعة الكاتب على X:
