الشيشان لن تتكرّر.. القتلى الروس لن يهدّدوا الكرملين..

مدة القراءة 8 د

روبين ديكسون (Robyn Dixon) وسودارسان راغافان (Sudarsan Raghavan) وإيزابيل خورشيديان (Isabelle Khurshudyan)The Washington Post

 

بعد مضيّ وقت قليل من بدء الغزو، انتشر شعار على شكل هاشتاغ في كلّ مكان في روسيا: “نحن لا نترك أحداً من جنودنا خلفنا”. لكنّ الكثير منهم كانوا في إيربين Irpin، على مشارف العاصمة الأوكرانية، كييف. جنديّان روسيّان كانا قد قُتلا في معركة سابقة مُستلقيان على زاوية شارع، وهما مغطّيان بصفائح من المعدن، وسيقانهما مكشوفة. رقد جندي ثالث على بعد أمتار قليلة بالقرب من ناقلة جند مدرّعة محترقة. جندي رابع ملقى على الطريق، ضحيّة لغم.

في موششون (Moshchun)، وهي قرية صغيرة كانت ذات يوم وادعة، وتقع شمال غرب كييف، لقي جندي روسي آخر حتفه على نحوٍ سيّء داخل مطبخ ذي إضاءة خافتة. كان جالساً على كرسيّ مصاباً بجرح مروّع في الفخذ. وتناثر عشرة جنود آخرون حوله، وكثير منهم على أطراف الغابة.

لدى أوكرانيا حوالى 7 آلاف جثّة روسية لم يطالب بها أحد في المشرحة أو عربات السكك الحديدية المبرّدة

وفيما تم التخلُّي عن عدد لا يُحصى من جثث الجنود في ساحة المعركة، عادت جثث كثيرة أخرى إلى أُسرها. لكنّ إجمالي عدد القتلى في روسيا، على الرغم من كونه مذهلاً، لا يزال غير دقيق. في روسيا، ضيّق الكرملين الخناق على أنباء الخسائر العسكرية، ويبدو أنّه يخشى أن يتحوّل حزن الأمّة إلى حالة من الاضطراب. ففي عام 2015، وقّع بوتين مرسوماً يعلن فيه أنّ جميع الوفيات العسكرية هي سرّ من أسرار الدولة. وفي العام الماضي، جرّمت روسيا التصريحات التي تشوّه سمعة الجيش.

بحسب تقدير الحلف الأطلسي، فقدت روسيا ما بين 7 و15 ألف جنديّ خلال ستة أسابيع من الحرب في أوكرانيا، وهو رقم أوّليّ، بينما قدّرت أوكرانيا عدد القتلى بـ18 ألفاً و600 جندي. أرقام تضاهي، إن لم تتجاوز، خسائر الجيش السوفياتي في حرب أفغانستان التي استمرّت 10 سنوات (14,453 جندياً) وخسائر الجيش في حربَيْ الشيشان، الأولى بين عامَيْ 1991 و1994، والثانية بين عامَيْ 1999 و2009 (11 ألف جندي).

تقدّر روسيا عدد القتلى العسكريين رسميّاً في الحملة الأوكرانية بـ 1,351 جندياً، ولا يذكر التلفزيون الحكومي هذا الرقم، فيما تستعدّ روسيا الآن على ما يبدو لحرب استنزاف شاقّة، وتوقّع المحلّلون أن تستمرّ موسكو في زجّ أعداد هائلة من القوات والموارد. ومع ذلك، فإنّ وسائل الإعلام في البلدات والمدن الروسية، التي فقدت أكبر عدد من أبنائها، هادئة بشكل غريب.

 

عشرات من بلدة واحدة

عشرات الجنود من بلدة أليسك (Aleysk) الروسيّة، في منطقة ألتاي (Altai) ، لقوا حتفهم في الأيام الأولى من الحرب في القتال بالقرب من مدينة تشيرنيهيف (Chernihiv) الأوكرانية. وبعد وصول الأخبار إلى العائلات، لم يكن هناك سوى إشارة خفيّة واحدة على صفحة أخبار المجتمع المحلّي على الإنترنت: “أعزّائي أفراد الأسرة العسكرية! نرجو منكم عدم السماح للناس بالتجمّع في مكان واحد، وعدم الاستسلام للمعلومات الاستفزازية .”

حذّر إشعار مماثل على صفحة الذاكرة الأبدية لمدينة تشيليابينسك (Chelyabinsk)، وهي مدينة روسية أخرى فيها عدد كبير من الضحايا، من المعلومات المزيّفة “التي نُشرت بهدف إثارة الهستيريا”. وأضاف أنّه يجب على الناس عدم نشر أخبار الوفيات، مدّعياً أنّ “نازيّين من أوكرانيا” كانوا يحاولون “جمع معلومات عن جنودنا من أجل التطوير اللاحق لمعلومات مزيّفة”.

فاديم كولودي (Vadim Kolodiy)، وهو مدفعيّ يبلغ من العمر 19 عاماً من كتيبة الاستطلاع رقم 136 المتمركزة في نارو-فومينسك (Naro-Fominsk) خارج موسكو، توفّي بعد تعرّضه للهجوم، وهو عالق داخل حاملة جنود مدرّعة، حسبما أخبر الجيش الروسي والدته، تاتيانا، الشهر الماضي. لكنّها قالت إنّها لم تتسلّم جثّته.

كتبت تاتيانا على وسائل التواصل الاجتماعي: “أنا في حالة هستيرية. لم يكن لدى فاديم حتّى فرصة الهرب. لقد احترق في الداخل”. وقالت: “كان الأسبوع الأول من علمي بالخبر كالظلام. ألم، دموع. لم أستطع النوم أو الأكل”. وأضافت: “شعرت بالغضب من الرجال في سنّ الثلاثينيّات والأربعينيّات من العمر وهم يشربون الجعة، بينما مات “الأطفال” في أواخر سنّ المراهقة وأوائل العشرينيّات. بعد أسابيع قليلة من وفاة كولودي، تمّ تحليل البقايا المتفحّمة التي يُعتقد أنّها تخصّه في مختبر في روستوف (Rostov)، لكنّ الحمض النووي لم يتطابق معه”.

قالت تاتيانا: “لا أحد يبحث عن هؤلاء الأطفال. لا أحد يهتمّ بهم. كم عدد هؤلاء الأطفال، أيّها الأزواج، هناك؟ ما مقدار الألم الذي جلبه كلّ هذا؟”.

دفنت أنيا ديريابينا (Anya Deryabina)، أرملة نيكيتا ديريابين (Nikita Deryabin)، زوجها الشهر الماضي، لكنّها لا تستطيع تجاوز الأمر. كان ديريابين (25 عاماً) من تشيليابينسك (Chelyabinsk) يحبّ زوجته وأطفاله الثلاثة الصغار. قنّاص أحبّ الجيش. أُرسل في “تمرين تدريبي”، ثمّ لقي مصرعه في معركة وقعت في 8 آذار.

وقالت ديريابينا في إجابات مكتوبة على الأسئلة: “ما زلت لا أستطيع أن أدرك أو أصدّق أنّ هذا صحيح”. وهي لا تستطيع التحدّث دون أن تبكي. في الليل، كانت تحلم به، وتشعر أنّه لا يزال معها: “أتحدّث إليه كلّ يوم. كلّ يوم أسأله: من أجل ماذا؟ ولماذا”.  وقالت مستخدمة اسماً مستعاراً مختصراً: “عقلي يرفض قبول المعلومات التي تفيد بأنّ نيكيتا مات. ما زلت في انتظار اتّصاله كي يخبرني بموعد رجوعه”.

 

محاولة إعادة الجثث

لدى أوكرانيا حوالى 7 آلاف جثّة روسية لم يطالب بها أحد في المشرحة أو عربات السكك الحديدية المبرّدة، وفقاً لِما ذكره أوليكسي أريستوفيتش (Oleksiy Arestovych)، مستشار رئيس الإدارة الرئاسية الأوكرانية. وقال إنّ رقم حكومته البالغ 18,600 قتيل روسي يستند إلى تقارير أوكرانية من ساحة المعركة، ومن الاتصالات العسكرية الروسية التي جرى اعتراضها. وقال إنّ أوكرانيا حاولت إعادة جثث 3 آلاف جندي روسي في اليوم الثالث من الحرب. لكنّ الروس قالوا: “لا نصدّق وقوع هذا العدد من القتلى. ليس لدينا هذا الرقم. نحن لسنا مستعدّين لقبولهم”. وعرضت أوكرانيا على الروس تبادلاً للجثث والأسرى أكثر من مرّة، “لكنّهم لم يريدوا مناقشة كلّ ذلك حتى الآن”، يقول المستشار الأوكراني. لذلك أنشأت وزارة الشؤون الداخلية الأوكرانية موقعاً إلكترونياً وقناة تلغرام حيث يمكن للروس البحث عن صور القتلى وأسرى الحرب، أو ملء نموذج عبر الإنترنت للحصول على معلومات عن أقاربهم.

وزارة الدفاع الروسية لم تردّ على طلبات التعليق على هذه المعلومات.

بحسب تقدير الحلف الأطلسي، فقدت روسيا ما بين 7 و15 ألف جنديّ خلال ستة أسابيع من الحرب في أوكرانيا، وهو رقم أوّليّ

التحلّق حول القوّة الغاشمة

يقول كير غايلز (Keir Giles) من مركز الأبحاثChatham House ، ومقرّه لندن: “الاختلاف بين المواقف العسكرية الغربية والروسية بشأن قتلى الحرب كمثل الليل والنهار… تماماً مثل موقفهم تجاه الخسائر المدنية والأضرار الجانبية، وهو ما لا يمكن فهمه تماماً استناداً إلى الطريقة الغربية في إدارة العمليات العسكرية”.

كانت روسيا قد خطّطت لعملية سريعة في أوكرانيا، على غرار ما خطّطت له في حربَيْها في أفغانستان والشيشان، لكنّها تعثّرت بعد ذلك. وقال غايلز: “عندها تحوّلت روسيا من الطريقة الذكية في القتال إلى طريقة القوّة الغاشمة لكسب الحرب”. وتتزايد الخسائر في كلا الجانبين.

في الشيشان، توقّع المسؤولون الروس انتصاراً سريعاً. كان اقتحام العاصمة غروزني في عام 1994 كارثة. ضاع جنود في عربات مصفّحة، وافتقروا إلى الدعم الجوّي وأجهزة الراديو العاملة. لكنّ وسائل الإعلام الروسية في ذلك الوقت كانت حرّة، وكان المجتمع المدني متنامياً. وبثّت البرامج الإخبارية لقطات لجنود روس يحترقون أحياء في عربات مصفّحة. ذهب آباء الجنود المذعورين إلى الشيشان، واصطحبوا معهم أبناءهم إلى منازلهم.

كانت لجنة أمّهات الجنود (The Soldiers’ Mothers Committee)، بقيادة فالنتينا ميلنيكوفا (Valentina Melnikova)، نقطة محورية للاحتجاجات والغضب. في كانون الأول من العام الماضي، عندما احتشد الجيش الروسي بالقرب من أوكرانيا، بدأ هاتفها يرنّ مرّة أخرى، على الرغم من تقاعدها قبل زمن طويل، كما قالت ميلنيكوفا أخيراً لمحاوِرتها على اليوتيوب، الروسية إيكاترينا جوردييفا .(Ekaterina Gordeyeva) رفضت ميلنيكوفا طلبات المقابلة من “واشنطن بوست”، موضحةً أنّ من الخطر عليها أو على اللجنة التحدّث، بسبب قانون يحظر تشويه سمعة الجيش.

قال سيرغي كريفينكو (Sergei Krivenko)، مدير جماعة “قانون جيش المواطن” (Citizen Army Law) إنّ “الروس لديهم حساسية تجاه مقتل المجنّدين. قال بوتين إنّه لن يُرسل المجنّدين إلى أوكرانيا، لكن تمّ إرسال بعضهم. ومع ذلك، فإنّ وقوع الخسائر بين المتطوّعين أو الجنود “المتعاقدين” في أوكرانيا أقلّ إثارة للصدمة”.

إقرأ أيضاً: زيلينسكي: بطل الحرب كيف يصبح بطل سلام؟

أكمل كريفينكو: “العقلية السائدة هي أنّك تقبض مقابل هذا، وإذا أُرسلت إلى عملية عسكرية ومتّ، فهذا خيارك. الجندي هو مجرّد أداة للقيام بوظيفة… المهمّة الرئيسية هي تدمير العدوّ، وعدد الخسائر التي نتكبّدها هي مسألة ثانوية”.

يشكّ كريفينكو في أن يؤدّي تزايد عدد القتلى الروس إلى إثارة استياء شعبي كافٍ لتهديد بوتين. “تصرخ البروباغندا باستمرار بأنّنا نهزم الفاشيّين في أوكرانيا. وما دام عدد القتلى لا يزيد مئة مرّة، فلا أعتقد أنّه سيكون هناك أيّ اضطراب في روسيا”.

 

لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”

هل كان يمكن لتفجير “البيجرز” لو حدث عام 2023 انهاء الحرب في وقت أبكر؟ سؤال طرحته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنّه كان يمكن لتفجير البيجرو…

فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا

تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ…

ألكسندر دوغين: إسقاط الأسد فخّ نصبه بايدن لترامب

يزعم ألكسندر دوغين الباحث السياسي وعالم الفلسفة الروسي، الموصوف بأنّه “عقل بوتين”، أنّ سوريا كانت الحلقة الأضعف في خطّة أوسع نطاقاً لتقويض روسيا، وأنّ “سقوط…

إغناتيوس: قطر تقود جهود تشكيل حكومة انتقاليّة في سوريا

كشف ديفيد إغناتيوس المحلّل السياسي في صحيفة واشنطن بوست أنّ “قطر، التي كانت لفترة طويلة داعمة سرّية لهيئة تحرير الشام، تقود الجهود العربية لإنشاء حكومة…