هل يفكّ “مطرب البوب” طلسم المعارضة التركيّة؟

مدة القراءة 8 د

أثارت أغنية نجم البوب التركي والعالمي تاركان، التي ألقى بها أخيراً كحبل خلاص صوب المعارضة التركية، لانتشالها عن غير قصد من ورطة التفكّك والشرذمة، الكثير من ردود الفعل السياسية والحزبية والشعبية في الداخل التركي.

كنّا نستعدّ في تركيا لمناقشة أجواء زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان للإمارات العربية المتحدة، ولماذا لم يعرّج على الرياض، وأسباب تأخّر توجّهه إلى القاهرة، فإذا بكلمات أغنية تدخل على الخطّ وتقلب الأمور رأساً على عقب وتشعل الداخل التركي الذي يبحث عن فرص الخروج من أزماته المعيشية والاقتصادية في هذه الآونة.

بعثرت أغنية “الميغا ستار” أو مطرب البوب التركي “تاركان”، الساحة السياسية والحزبية التركية بعد ساعات فقط من نشرها على مواقعه الإلكترونية. إذ تلقّفتها القوى السياسية في أحزاب المعارضة وزيّنت بها صفحاتها الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي متحدّية انتقادات الأقلام والأصوات الداعمة للحكومة التي اعتبرتها “أغنية – مصيدة” أعدّها “حزب الشعب الجمهوري” – وهو رأس هرم المعارضة – وذلك بالتنسيق مع “حزب الشعوب الديمقراطي” لاستهداف “حزب العدالة والتنمية” الحاكم وتحالف الجمهور الذي يضمّه إلى جانب “حزب الحركة القومية” اليمينيّ.

تاركان متّهم بأنّه خرج عن المعتاد هذه المرّة واستهدف الحزب الحاكم مباشرة على الرغم من أنّه أوضح بعد تصاعد الحملات ضدّه وانقسام الداخل التركي بين مرحّب ومنتقِد أنّه كتب كلمات أغنيته قبل أكثر من عام

من هو تاركان؟

تاركان هو أحد أشهر مغنّي البوب في تركيا. ولد في ألمانيا الغربية وعاش وكبر في إسطنبول. له العديد من الألبومات التي انتشرت بشكل كبير. يوصف بأنّه نجم البوب الوحيد في العالم الذي تمكّن من اختراق قلوب الملايين في 3 قارات من دون الغناء باللغة الإنكليزية. أسلوب وأداء تاركان ليس أسلوب وأداء مايلز ديفيس أو رولينغ ستون أو جون لينون أو جو داسان وآزنافور، لكن هو أيضاً له شعبيّته وعشّاقه، خصوصاً أنّ صحيفة مثل “واشنطن بوست” وضعته على مستوى واحد مع النجم العالمي الراحل إلفيس برسلي.

القاعدة المُتعامَل بها في قطاع الموسيقى والأغنية هي أنّ غالبيّة الفنّانين لا يتدخّلون في الشأن السياسي. السياسة ليست بين أولويّاتهم أو أهدافهم أو تطلّعاتهم. الأغنية السياسية أيضاً شأن آخر له طرازه ومستمعوه بعكس أسلوب وشخصية نجم مثل “تاركان” استطاع بأغانيه وأدائه المختلف والمميّز أن يعبر الحدود التركيّة ويصل إلى قلوب وعقول الملايين في العالم. فهل خرج النجم التركي عن الخارطة التي رسمها لنفسه أم ركب موجة الأزمة الاقتصادية وارتداداتها على الداخل التركي وأراد اصطياد المزيد من الشعبية مستغلّاً مثل هذه الفرصة؟

ما هي الاغنية الجديدة؟

أغنية تاركان الجديدة “ستمرّ” هي العبارة الأكثر تداولاً وانتشاراً اليوم على ألسنة قيادات المعارضة وكوادرها. تتمسّك بها كسلاح قدّمه لها تاركان وسط توقيت دقيق بحيث يساعدها على كسب المزيد من الشعبية في مواجهة الحزب الحاكم. حطّمت نسبة الاستماع الأرقام القياسية، فعشرات الملايين استمعوا إلى الأغنية خلال الأيام الثلاثة الأولى من إطلاقها، وكلماتها هي اليوم على ألسنة الكثيرين.

ما الذي قاله تاركان في أغنيته ليشعل الأجواء السياسية والحزبية ويُغضب قواعد تحالف الجمهور الحاكم ويدفع قواعده والإعلام المحسوب عليه إلى إعلان الحرب ضدّه ويحرّك بالمقابل المعارضة للاصطفاف من ورائه والدفاع عنه وتبنّي أغنيته على هذا النحو؟ وهل تسمح لعبة الشدّ والجذب السياسيَّين والحزبيَّين في تركيا لكلمات أغنية أن توجّه مسار الأمور وتتحكّم بمواقف وقرارات القواعد؟

تاركان متّهم بأنّه خرج عن المعتاد هذه المرّة واستهدف الحزب الحاكم مباشرة على الرغم من أنّه أوضح بعد تصاعد الحملات ضدّه وانقسام الداخل التركي بين مرحّب ومنتقِد أنّه كتب كلمات أغنيته قبل أكثر من عام وكان ينتظر الفرصة المناسبة لتلحينها وغنائها، وأنّ المسألة لا علاقة لها بالأوضاع المعيشية القائمة في تركيا، بل هي نتيجة وضعه النفسي هو بسبب جائحة كورونا التي عصفت بالعالم. لكنّ المؤكّد هو أنّه لم ينجح في امتصاص حالة الغضب القائم ضدّه وإقناع منتقديه أو داعميه بالتخلّي عن هذا التصعيد وعن التمسّك بتحويل أغنيته إلى فرصة سياسية لتصفية الحسابات في ساحة المواجهة.

الأغنية باختصار تقول إنّ “لكلّ شيء نهاية”، وإنّ “الحالة القائمة اليوم ستمرّ”، وإنّ “المعاناة ستنتهي”، وإنّنا “سبق أن عشنا ظروفاً أصعب ممّا نحن فيه. سقطنا أرضاً أكثر من مرّة، لكنّنا عاودنا النهوض والسير. إذا سألتموني، أنا أيضاً لست على ما يرام، ولم يعُد لديّ التفاؤل نفسه، ولا أستمتع بالحياة كثيراً”.

ألا يكفي ذلك ليرفع من معنويات المعارضة التركية ويدفعها إلى التمسّك بتاركان وبأغنيته لإخراجها من وضعيّة الشرذمة والانقسام الذي تعاني منه؟

صحيح أنّ أكثر من 15 شهراً تفصلنا عن الموعد الرسمي المعلن للانتخابات في تركيا، وأنّ الكثير من التطوّرات والمفاجآت ستحدث. لكنّ المعارضة التي لم تطرح حتى الآن أيّ موقف سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي حقيقي باتجاه التغيير وإقناع الناخب بقدرتها على إخراج البلاد من أزماتها، لجأت إلى أغنية تاركان لتقول إنّها صرخة المواطن وصوته اليوم.

وصل النقاش إلى سؤال: مَن الذي سيدفع أكثر للحصول على حقوق استخدام الأغنية إبّان حملاته الانتخابية علّها تزيد من شعبيّته وترفع من حصّته؟

ليست أغنية تاركان طلسماً، لكنّها كانت تُقرأ بأكثر من أسلوب وطريقة، ويمكن تفسيرها بأكثر من شكل. انتشارها وتبنّيها على هذا النحو جعلاها قابلة للتأويل والاستفادة منها في تحريك الداخل التركي من قبل المعارضة، التي لعبت ورقة تاركان الفنّان الحيادي الذي لم يعد قادراً على التحمّل، وربّما هذا هو ما أغضب تحالف الجمهور وقيادات حزب العدالة.

تخلّي تاركان المبكر عن المعارضة حوّلها إلى طلسم يجب تفكيك ألغازه وإنهاء مفعوله بعدما أصبحت المعارضة التركية بما هي عليه اليوم أمنية الكثير من الأحزاب السياسية في السلطة لأنّها معارضة مفكّكة مشرذمة لا تملك أيّ مشروع سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي بديل يفتح الطريق أمامها للوصول إلى الحكم، وتبني كل مواقفها وتحرّكاتها على أساس ردّة الفعل وليس الفعل في العمل السياسي التركي.

أغلبية للمعارضة؟

تعطي آخر تقديرات استطلاعات الرأي التركية قوى المعارضة الأغلبيّة التي تريدها للوصول إلى الحكم في مواجهة “تحالف الجمهور”. هدف المعارضة هو محاولة حماية هذه الأرقام والنسب والرهان على فشل حزب الحركة القومية اليميني حليف حزب العدالة والتنمية في تجاوز نسبة العشرة في المئة المطلوبة لدخول البرلمان وتقاسم مقاعده في البرلمان وإضعاف فرص إردوغان وحزبه.

حاولت قوى المعارضة أن تبدأ بخطوة أخرى جديدة قبل أسبوعين عندما دعا كمال كيليشدار أوغلو قيادات 6 أحزاب إلى لقاء حول طاولة مستديرة هدفه بحث سبل التنسيق والتعاون في مواجهة حزب العدالة.

أعلن كيليشدار أوغلو بعد ساعات على الاجتماع أنّه سيدرس بشكل جدّي أيّ قرار يصدر عن أحزاب المعارضة يدعوه إلى الترشّح لمنافسة إردوغان على منصب الرئاسة في الانتخابات القادمة.

يتجاهل كيليشدار أوغلو استطلاعات الرأي نفسها التي ترجّح فوز المعارضة، وهي تقول إنّ حظوظه بالفوز في مواجهة إردوغان ضئيلة جدّاً، وإنّه في المرتبة الرابعة بين المرشّحين القادرين على المنافسة. مع التوقّف عند مسألة ضرورة إيجاد مخرج لمسألة استبعاد حزب الشعوب الديمقراطي، الذي يعتمد على أصوات الأكراد في تركيا، والذي تصل نسبة أصواته إلى حوالي 10 في المئة، عن الطاولة السداسية لأنّ بقية الأحزاب لا تريد التعاون والتحالف معه بسبب مواقفه وميوله السياسية.

الصدمة الكبرى التي تنتظر المعارضة التركية هي تحرّك البعض لطرح سيناريو بناء تكتّل ثالث بديل يضمّ أحزاباً إسلامية محافظة معارضة لحزب العدالة، ويجمع حزب السعادة الإسلامي وحزبيْ “دواء” و”المستقبل” اللذين أسّسهما علي باباجان وأحمد داوود أوغلو.

تفكّكت المعارضة قبل أن تلتحم، وهي تحتاج إلى أكثر من تاركان لإخراجها من ورطتها.

إقرأ أيضاً: أردوغان في الإمارات: بانتظار السعودية ومصر

مشكلة المعارضة التركية التي تستنجد بأغنية وتتمسّك بها لتخرجها من ورطتها، هي حاجتها إلى معجزة إنجاز تفاهم سياسي وانتخابي حقيقي، إذ لا وجود لخارطة طريق توحّد صفوفها ولا برنامج تغيير سياسي واقتصادي واجتماعي يقرّبها في إطار خطة العودة إلى النظام البرلماني الذي تدعو إليه، ولا استراتيجية تحرّك حقيقي في محاولة كسب شرائح انتخابية واسعة في وضعيّة اللاقرار أو التي حسمت موقفها بالمقاطعة وعدم التوجّه إلى الصناديق، وهي نسب وصل عددها إلى أكثر من 15 في المئة حسب استطلاعات الرأي الأخيرة، وإنّ أولويّة بعض قياداتها هي محاولة تقاسم الحصص والمناصب والأدوار قبل وصولها إلى الحكم.

تلقّفت المعارضة التركية أغنية تاركان وتمسّكت بها معلنةً أنّ الأخير ليس وحده في المواجهة على الرغم من تخلّيه هو عنها. وربّما هي فرحت بما قاله أحد المحلّلين السياسيين المقرّبين من الحزب الحاكم، وهو يعلِّق على الأغنية وكلماتها، من أنّها مؤامرة مدبّرة بالتفاهم بين حزب الشعب الجمهوري المعارِض وشريكه حزب الشعوب الديمقراطي، فمثل هذه المواقف هي التي ستبقيها تدور في حلقتها المفرغة ريثما تكتشف ما يدور من حولها.

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…