حفاوة الاستقبال الرسمي والشعبي والإعلامي للرئيس التركي رجب طيب إردوغان في الإمارات واكبتها أجواء ترحيبية إيجابية مشابهة في الداخل التركي بدأت قبل الزيارة بأشهر، وما زالت قائمة حتى اليوم.
ما تناقله الأتراك من أنباء وتفاصيل عن الزيارة، إلى جانب العقود الاقتصادية والاتفاقيّات السياسية والأمنيّة والثقافية، كان مهمّاً أيضاً، خصوصاً الآتي:
– الأرقام التي حقّقها هاشتاغ “الإمارات تركيا علاقات استراتيجية”، ونيله إعجاب وتبنّي عشرات الملايين في العالمين العربي والتركي.
– إضاءة برج خليفة في دبي بألوان العلم التركي.
– الترويج الواسع لأداء الفنان الإماراتي الشهير حسين الجسمي لإحدى الأغاني التي يحبّها إردوغان، بعنوان: “كلّ شيء يذكّرني بك”، وباللغة التركية.
هناك لقاءات تركية إماراتية سياسية دبلوماسية مكثّفة جرت على أكثر من صعيد في الأشهر الماضية أوصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم
– أما الموجود في الأرشيف السياسي والإعلامي، فقد بقي في الأرشيف. ولا رغبة لأحد في إخراجه من هناك. الكثير من الأشخاص الذين ساهموا في صبّ الزيت فوق نار العلاقات قبل أعوام بقوا في منازلهم يتابعون مراسم استقبال رئيسهم في الإمارات عبر الشاشات أو يردّدون المقولة الشهيرة: “لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة في السياسة بل مصالح دائمة”.
الموقف التركي
ما قيل لنا في تركيا عن أسباب الزيارة وأهدافها ونتائجها المرتقبة يرسم معالمها من الزاوية التركية على الأقلّ:
– هناك لقاءات تركية إماراتية سياسية دبلوماسية مكثّفة جرت على أكثر من صعيد في الأشهر الماضية أوصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم.
– التحرّك التركي نحو الإمارات مرتبط بقرارات إعادة التموضع الإقليمي في أنقرة، وبلعبة التوازنات التي نجحت أبو ظبي بالمشاركة في تحديد معالمها ورسم شكلها في المنطقة.
– نتحدّث عن تفعيل العلاقات التجارية الثنائية وأهميّتها بالنسبة للبلدين في المرحلة المقبلة، لكنّ الشقّ الآخر من الحوار التركي الإماراتي يتعلّق بالملفّات الإقليمية والعلاقات التركية العربية والتركية الخليجية تحديداً.
– ستكون هناك مرحلة انتقالية سريعة في مسار العلاقات لتفعيلها سياسياً واقتصادياً وأمنيّاً، لكن ستكون هناك طاولة ثنائية أخرى لبحث فرص التنسيق في معالجة ملفّات إقليمية عالقة تعني أكثر من طرف.
– ستتعاون أنقرة وتكون منفتحة حتّى النهاية ما دامت أبو ظبي جاهزة لذلك، وما دام الذي يجري يصبّ في مصلحة البلدين والاستقرار والأمن في المنطقة.
– ما نعوّل عليه في أنقرة هو تحرّك إماراتي أكبر من التقاء المصالح والسياسات في أكثر من ملفّ ثنائي. ربّما تلعب أبو ظبي دوراً مسهّلاً في تليين المواقف بين تركيا والعديد من العواصم العربية، وتسرّع تفعيل قنوات الحوار والتواصل لإنجاز اختراق حقيقي في العلاقات العربية التركية.
– هي مسؤوليّة كبيرة تتطلّب الدعم العلني الكامل من أنقرة، وربّما تكون الخيار الأقرب ما دمنا نتحدّث في تركيا عن تحسين علاقاتنا مع دول الخليج وعن مبادرات السلام الإقليمي.
– وهناك خطوات استباقية مهّدت لزيارة إردوغان أبو ظبي، وخطوات استكمالية ستعقبها حتماً لدفع العلاقات نحو مرحلة جديدة. فالانفتاح التركي الإماراتي سيرفع مستوى علاقاتهما الاقتصادية ويخفّف التوتّر السياسي ويسهّل الذهاب نحو قراءة متقاربة في التعامل مع العديد من الأزمات حيث المناخ الإقليمي العامّ جاهز لذلك. لكن من دون التنسيق والتعاون مع بقيّة اللاعبين العرب المؤثّرين في المنطقة، مثل مصر والسعودية وقطر، سيكون من الصعب تسجيل اختراق حقيقي باتجاه الحلحلة وتسوية الكثير من الملفّات الخلافية العالقة.
كيف نجح التقارب؟
السؤال باختصار هو: كيف ولماذا نجحت الدبلوماسية في تسجيل هذا الاختراق الاستراتيجي في العلاقات الثنائية التركية الإماراتية التي عانت لعقد كامل من جمود وتوتّر؟
الإجابة باختصار أيضاً هي المقاربات الجديدة وشعور كلّ طرف بضرورة مراجعة حساباته ومصالحه وأولويّاته الإقليمية بشقّها الاقتصادي والسياسي والأمني والاجتماعي، ورصد تركي وإماراتي للعبة التوازنات في الإقليم والاحتمالات والسيناريوهات المرتقبة الجديدة. هذا إلى جانب التحوّلات القائمة في المعادلات الدولية المرتبطة بالتموضع الأميركي والروسي والصيني والأوروبي، والارتدادات المحتملة لهذه التموضعات على المنطقة ومصالحهما فيها. ما هي مصلحة أنقرة وأبو ظبي في انخفاض أرقام التبادل التجاري بينهما إلى النصف في العام المنصرم بعدما كانت قبل أعوام قد وصلت إلى 15 مليار دولار؟
سياسة مدّ اليد التي أطلقها إردوغان في الأشهر الأخيرة نحو العديد من دول المنطقة تلقّفتها أبو ظبي وكانت السبّاقة في التعامل بإيجابية معها. لماذا؟ لأنّ الإمارات نجحت في العقد الأخير بإنجاز قراءات حيوية مستقبلية في الإقليم أوصلتها إلى بناء منظومة علاقات سياسية واقتصادية وتموضع خليجي وعربي جديد من خلال عقود واتفاقيات بطابع استراتيجي مع أميركا والصين وروسيا والمجموعة الأوروبية من دون إغفال علاقاتها التاريخية مع المنظومة العربية. هذا إلى جانب تشخيص إماراتي مبكر للعبة التوازنات الإقليمية، وتسجيل نقلات نوعيّة في العلاقة مع العديد من دول المنطقة، مثل اليونان وإسرائيل، وقراءة جديدة في التعامل مع الملفّ السوري والعراقي واللبناني.
انطلقت باكراً أيضاً حملات “بالأمس كنتم واليوم أصبحتم”، وجاء الردّ المختزل “مصالح البلدين وشعبيهما فوق كلّ اعتبار”. ينتهي رصد التصريحات والمواقف الصادرة عن القيادات السياسية في تركيا والإمارات عند بوّابة الرغبة في فتح صفحة جديدة من العلاقات والانتقال بها بأسرع ما يكون نحو تعاون استراتيجي، كما يقول الهاشتاغ الإماراتي منذ أيام.
مَن بدأ الخطوة الانفتاحية باتجاه الآخر مهمّ طبعاً، لكنّ الأهمّ هو الاستفادة من دروس الماضي بكلّ ما حملته من سلبيّات، وتفعيل هذا التلاقي التركي الإماراتي الجديد بعد سنوات من التباعد الذي تحوّل في أكثر من مكان ومرّة إلى اصطفاف ومواجهة.
الانفتاح التركي الإماراتي سيرفع مستوى علاقاتهما الاقتصادية ويخفّف التوتّر السياسي ويسهّل الذهاب نحو قراءة متقاربة في التعامل مع العديد من الأزمات
تفكيك الحصار عن تركيا
في تركيا، تحدِّثنا الأقلام المقرّبة من حكومة العدالة والتنمية منذ أيام عن تفكيك محاولات فرض الحصار الإقليمي على تركيا وعزلها عن محيطها. مهمّ طبعاً. لكنّ المهمّ أيضاً أن نستفيد من الدروس التي استقيناها من كيفيّة وصول الأمور في العقد الأخير حتى منتصف العام المنصرم إلى هذه الدرجة من التوتّر والتصعيد والاصطفافات العربية والإقليمية في مواجهة السياسات والمصالح التركية في المنطقة.
هناك مَن يردّد في الداخل التركي أنّ حفاوة الاستقبال السياسي والشعبي والإعلامي للرئيس إردوغان في أبو ظبي لا يمكن فصلها عن التحوّلات في المواقف والسياسات وإعادة التموضع التي تشهدها المنطقة منذ عامين تقريباً. صحيح ربّما، لكنّ المسألة مرتبطة أيضاً بقراءات إقليمية جديدة تبنّتها أنقرة، وبينها العودة إلى السياسات التقليدية في لعبة التوازنات وفتح الأبواب أمام التنسيق والتفاهمات بواقعيّة وشفافيّة ومرونة.
ستظلّ زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الإمارات العربية المتحدة، واللقاءات التي عقدها مع القيادات في أبو ظبي، وانعكاساتها على العلاقات الثنائية والملفّات الإقليمية التي تعني البلدين، موضع نقاش وستبقى تتصدّر المشهدين السياسي والاقتصادي في الداخل التركي لفترة طويلة.
مدّت تركيا يدها للعديد من دول المنطقة في الأشهر الأخيرة، والإمارات لم تتأخّر في الردّ بسرعة وإيجابية. تأتي الزيارة بعد سلسلة من اللقاءات والمحادثات العلنيّة والبعيدة عن الأعين بين القنوات السياسية والدبلوماسية والأمنيّة في الجانبين، وإثر زيارة الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان مستشار الأمن القومي الإماراتي لأنقرة في 18 آب 2021، ثمّ زيارة وليّ عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان لتركيا في 24 تشرين الثاني 2021.
لم تكن المسألة تحتاج إلى اجتراح المعجزات عندما اخترنا عنوان “تركيا – الإمارات: الإقليم أوّلاً” لمادّتنا في “أساس” بتاريخ 26 تشرين الثاني المنصرم، أي قبل شهرين ونصف تقريباً. العنوان فرضته عبارة موجزة لوزير التجارة التركي محمد موش، في كلمة ألقاها خلال منتدى الأعمال التركي الإماراتي الذي عُقِد في دبي في كانون الأول المنصرم: “التعاون بين البلدين محفِّز للاستقرار الإقليمي ونموذج لباقي دول المنطقة”. ساعدنا هذا التصريح المقتضب يومها على محاولة تفكيك ألغاز الحوار التركي الإماراتي الجديد الذي أعطى الأولوية أيضاً للشقّ الإقليمي في مسار العلاقات.
كانت قمّة العلا الخليجية البداية لإشعال ضوء أخضر أمام تحوّلات جذرية في العلاقات العربية العربية والعربية الإقليمية، وقد أعقبها مدّ جسور التواصل مجدّداً مع أنقرة.
إقرأ أيضاً: الغاز إسرائيل-إردوغان
إذاً ينتظر الانفتاح التركي الإماراتي تتويجه بقمّة تركية سعودية، وأخرى تركية مصرية عاجلة وملحّة أيضاً، وبعدها سنواصل انتظار الجزء الآخر من التوقّعات، وهو ترتيب الطاولة الخماسية التي تحدّثنا عنها وقتها. إذ لا تقدّم حقيقيّاً إقليميّاً في التعامل مع الأزمات وإيجاد الحلول لها من دون إشراك الرياض والقاهرة والدوحة في طاولة مخزونها هو الثقل الإقليمي والخبرات القادرة على حلحلة ومعالجة الكثير.