صدر في عام 2010 كتاب في الولايات المتحدة للصحافي الأميركي جوناثان فنبي عن حياة الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول. في هذا الكتاب ينقل المؤلّف عن ديغول قوله إنّ “الأمم لا تنتج عمالقة إلا خلال الأزمات”.
عرفت فرنسا سلسلة أزمات وأنتجت عملاقاً كبيراً هو الجنرال شارل ديغول.
وعرف لبنان سلسلة أزمات أيضاً، فهل أنتج عملاقاً؟ وهل الجنرال ميشال عون هو ذلك العملاق؟
قاوم الجنرال ديغول قوات فيشي حتّى أنقذ منها فرنسا. وتعاون الجنرال عون مع حزب الله للاحتفاظ بالسلطة (اتفاق مار مخايل)
كان الجنرال ديغول رمز الصمود الوطني في وجه الاحتلال الألماني النازي. وكان الجنرال عون أحد رموز رفض الهيمنة أو الاحتلال السوري.. لكنّ الجنرال ديغول ذهب في مقاومته الاحتلال إلى حدّ مقاومة حكومة فيشي المتعاملة مع الاحتلال الألماني، فيما استخدم الجنرال عون الهيمنة السورية للوصول إلى السلطة.
قاوم الجنرال ديغول قوات فيشي حتّى أنقذ منها فرنسا. وتعاون الجنرال عون مع حزب الله للاحتفاظ بالسلطة (اتفاق مار مخايل).
كان الجنرال ديغول مهندس الانسحاب الفرنسي من الجزائر التي كانت فرنسا تعتبرها “المحافظة الجنوبية”. وتجاهل الجنرال عون حقوق لبنان السيادية في المرتفعات الغربية لجبل الشيخ التي تعتبرها سوريا جزءاً منها، والتي تحتلّها إسرائيل.
صنع الجنرال ديغول الجمهورية الفرنسية الخامسة المستمرّة حتى اليوم، التي يسود فيها الاستقرار والازدهار والرخاء. وصنع الجنرال عون دولة فاشلة في الطريق إلى جهنّم.
على الصعيد الشخصي كان الجنرال ديغول يسدّد فاتورة هاتفه الشخصي وهاتف زوجته إيفون. فأين الأموال والمجوهرات الشخصية والعائلية التي تبرّع بها المتأثّرون بالجنرال عون عندما اعتصم في بعبدا ورفع شعار “يا شعب لبنان العظيم”؟
كان الجنرال ديغول يتمتّع بمواصفات النبل والكرامة والشرف. وبهذه المواصفات وقف ضدّ النازية، وبها أيضاً تحالف مع بريطانيا والولايات المتحدة وبلاده محتلّة. ولم يلجأ إلى سفارة طالباً اللجوء السياسي. لجأ إلى لندن شريكاً في العمل السياسي وفي المقاومة ضدّ الاحتلال النازي. تحمّل الجنرال ديغول كلّ أنواع القهر والمعاناة من أجل شرف وكرامة فرنسا التي رفض أن يساوم حتى على دورها في إعادة رسم الخريطة السياسية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن بعد انسحاب القوات السورية من لبنان لم يكن يهمّ الجنرال عون سوى الوصول إلى الرئاسة متحالفاً مع هذه القوات ومع امتداداتها المحليّة!!
لا تزال الديغوليّة تتمتّع برصيد معنوي كبير من الاحترام والتقدير في المجتمع الفرنسي والأوروبي والعالمي. أمّا العونيّة فقد جعلت من لبنان دولة فاشلة منهارة تستجدي المساعدات حتى من الدول الفقيرة
مقعد ديغول العاشر
عندما اغتيل الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي، نظّمت الدولة الأميركية احتفالاً رسمياً لوداعه. كان مقعد الجنرال ديغول في الصف العاشر. لكنّه رفض الجلوس، وتقدّم إلى الصف الأول وجلس على أحد الكراسي، وقال لمنظّمي الاحتفال: “الآن يمكن أن تبدأوا”. وعندما توجّه الجنرال عون إلى أحد المؤتمرات العربية تفركش ساقطاً على وجهه أثناء تجمّع الرؤساء لالتقاط صورة جماعية، فوجّه الشتائم طولاً وعرضاً “من الزنار ونازل”!!
تمثّلت ثمار سياسة الجنرال ديغول في اعتلاء فرنسا مقعد العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، وتحوّلت إلى دولة نووية. وعرقلت محاولات دخول بريطانيا الى السوق الأوروبية المشتركة اعتقاداً منها بأنّ بريطانيا ليست أوروبية في ثقافتها ولا في تطلّعاتها (كما ثبت بعد ذلك من خلال البريكست –الانسحاب من الاتحاد الأوروبي). أمّا في لبنان فقد وضع الجنرال عون لبنان تحت هيمنة سلاح حزبي، وجعله ملحقاً بمعسكر معادٍ لهويّته وانتمائه ولمصالحه العربية.
في فرنسا قاد الشعب الفرنسي عملية حمل الجنرال ديغول إلى القيادة. في لبنان قاد زعماء طوائف عمليّة حمل الجنرال عون إلى الرئاسة. فكان الجنرال ديغول قائداً تنحّى وهو في قمّة عطائه. وبقي الجنرال عون رئيساً على الرغم من هوّة انحداره.
في أيار من عام 1968 قامت في فرنسا حركة المعارضة الطلابية والعمّالية. كان الجنرال ديغول في أواخر السبعينيّات من عمره، فاستقال على الفور وسكن في بيته الصغير خارج باريس.
وفي 17 تشرين الأول من عام 2019 قامت في لبنان حركة المعارضة الأهليّة. كان الجنرال عون في أواخر الثمانينيّات من عمره. فدعا المتظاهرين إلى الرحيل. وفتح أمامهم أبواب الهجرة حتى عبر الأبواب الخلفيّة المغلقة.
قبل اعتكافه، صنع الجنرال ديغول من فرنسا دولة عظمى لها اليوم موقع قيادي في المنظومتين الأوروبية والعالمية. فيما تجرّد لبنان من رسالته ومن دوره وحتى من كرامته في عهد الجنرال عون.
إقرأ أيضاً: هل قرّر السيّد القضاء على اللبنانيّين في “جهنّم” عون؟!
لا تزال الديغوليّة تتمتّع برصيد معنوي كبير من الاحترام والتقدير في المجتمع الفرنسي والأوروبي والعالمي. أمّا العونيّة فقد جعلت من لبنان دولة فاشلة منهارة تستجدي المساعدات حتى من الدول الفقيرة (باكستان مثلاً).
إنّها قصّة جنرالين.. أحدهما مات وبقيت ذكراه حيّة. والآخر حيّ لا يزال يشتغل على صناعة ذكراه.