البلد “مش” ماشي… يا أبا بهاء

مدة القراءة 6 د

عدت إلى البيت بعد يوم طويل وشاقّ وماطر. خلعت عنّي ثيابي وقلت لأمّ زهير إنّني سأخلد إلى الفراش لأنّني متعب ولا أريد أيّ إزعاج لو سمحتِ. فرحت أمّ زهير لسماع هذه الجملة، فذهبت لتكمل سهرتها مع جارتنا أمّ عفيف قبل أن أكمل كلامي.

ما هي إلاّ دقائق حتى تملّك مني “ملك النوم” سريعاً، فغطّيت في سِنَة، ورأيت، في ما يرى النائم، مشهديّة ورديّة أعادتني أكثر من 20 سنة إلى الخلف. رأيت نفسي في منطقة قريطم أهمّ بالدخول باكراً إلى قصر الشيخ رفيق الحريري لأرتشف معه القهوة باكراً جدّاً. كان كعادته في الحديقة واضعاً نظّاراته عند طرف أنفه ليتمكّن من قراءة “جبل الصحف” المتراكم أمامه، يسترق النظرات خلسة ولبرهات نحو جالسيه، فيوجّه إليهم الحديث تارة، ثمّ يغطّ في قراءة خبر من هنا أو مقال من هناك، تارة أخرى.

الحالة عدم يا أبا بهاء. ليست الطريق الجديدة فحسب، وإنّما بيروت كلّها التي كنت تعرفها وكنت تقصد شوارعها وأزقّتها بالسيارة في الليل الدامس من أجل تفقّد شؤونها وأحوال أهلها، ما عادت كما كانت. بيروت كلّها تغيّرت يا أبا بهاء

بدا الحديث مع الشيخ رفيق وكأنّه في عالم البرزخ، لا هو في قصر قريطم فعلاً ولا هو في مكان آخر أشعر بأنّني أعرفه لكنّني لا أذكره جيّداً. هو حلم، كأيّ حلم يزورنا خلال النوم، نتذكّر منه تفاصيل وننسى أخرى.

– سألني الشيخ رفيق: “كيفك أبو زهير؟ طمنّي كيف الطريق الجديدة؟ وكيف رضاك عليها؟”.

عندئذٍ وقعت في حيرة وما عدت أعرف هل أخبره عن الماضي أو عن الحاضر أو عن المستقبل الذي عُلّق “عمله السياسي”. ما عدت أشعر بالوقت ولا بمرور الثواني والدقائق والساعات… والليالي والآمال والذكريات. اختلطت عليّ الأحاسيس لبعض الوقت، لكنّني جمعت أفكاري وقواي، وقرّرت أن أنطق ليس عن الهوى، وإنّما بما أشعر وبما أميل لأنّني فعلاً أريد أن أقوله:

– الحالة عدم يا أبا بهاء. ليست الطريق الجديدة فحسب، وإنّما بيروت كلّها التي كنت تعرفها وكنت تقصد شوارعها وأزقّتها بالسيارة في الليل الدامس من أجل تفقّد شؤونها وأحوال أهلها، ما عادت كما كانت. بيروت كلّها تغيّرت يا أبا بهاء. إن مررتَ بالسيارة في أحياء بيروت تخاف أن يوقفك “الحرامية” ليسرقوك، أو أن يأخذوا منك بقوّة السلاح حفنة من الليرات (لأنو ما في دولارات)، أو يسرقوا منك هاتفك الخلوي ليبيعونه من أجل قليل من العملة الخضراء التي فُقدت من جيوب المواطنين ومن خزائن المصارف يا أبا بهاء… هذا إن لم تسقط السيارة بجورة بسبب الظلام الذي يلفّ أمّ الشرائع نتيجة انقطاع التيار الكهربائي معظم الوقت. فثمّة من أتى به عمّه وزيراً، فوعد اللبنانيين من بعدك بأن يأتي لهم بالتيار الكهربائي 24/24، فقطعها 24/24… بيروت ما عادت لأهلها يا أبا بهاء!

– أبو بهاء: لا دولارات في المصارف؟ لماذا؟ ماذا حلّ بالمصارف؟ أين رياض سلامة؟

– المصارف يا أبا بهاء صارت أكثر المكروهين من بعد “صهر العهد”، لأنّها أكلت أموال الناس وهرّبت ما تبقّى إلى الخارج. “السيستم” الذي وضعته أنت لسنوات عجز الجميع عن إعادة تشغيله، فانهار الهيكل فوق رؤوس الجميع، خصوصاً من بعد أن تخلّى عنّا جميع الأشقّاء وتركونا نصارع قتلة من صنف أشرف الناس… هؤلاء ربطنا معهم النزاع بعد اغتيالك وظننا أنّ التعايش معهم قابل للتحقّق، لكن للأسف. هذا لم يحصل والأمور إلى مزيد من التأزّم. قتلوك فضاع البلد وطارت أموالنا. ضحكوا علينا يا أبا بهاء. أمّا رياض فساعدهم في كثير من المرّات، وتصدّى لهم في قليل منها، لكن في المجمل هو اليوم مَن يغطّي الذين قهَروا الناس. يغطّيهم بأموالنا ويستمرّ في ذلك… دعك من رياض يا أبا بهاء، الخوض في أموره يجلب لي الاضطراب، ثمّ اتركه بحاله فهو لا يُحسد أبدً على ما هو فيه بعدما بات ملاحَقاً في أكثر من عاصمة أوروبية.

– أبو بهاء: طيّب فؤاد ونهاد وفريد… وبهيّة. سعد شو أخبار سعد وإخوته؟ خبّرني؟

– كلّ شيء ببيروت تغيّر يا أبا بهاء، حتى الهوا…

بهاء استذكر الزعامة بعد 17 سنة من رحيلك يا أبا بهاء. ويعود لكي يأخذ ما يظنّ أنّه من حقّه وبدو ياخد تاره من خيّو وما تاركوا كل يوم بيستناولوا

– أبو بهاء مقاطعاً: أبو زهير… لا تغيّر الحديث؟ حركاتك بعرفها، شو في؟ إحكي!

– مممممممم… سعد سافر إلى الإمارات العربية المتحدة يا أبا بهاء. يُقال إنّه سيبدأ من جديد. سيبدأ من الصفر بعدما دخلها بالدموع وخرج منها بالدموع. لكن سعد طيّب وكريم يا أبا بهاء ولا أحد قادر على الغضب منه، “حبّه منو وفيه، Built-in”… الله يوفّقه! أمّا فؤاد فهو الآخر يحاول. يخرج علينا كلّ مدّة بحكاية هلق دور لمّ الشمل، لكن لا بأس، فهو من ريحتك وعلينا أن نتحمّل. وأمّ نادر أيضاً فعلت ما بوسعها، وها هي تنكفىء اليوم بعد قرار سعد الذي قضى بتعليق العمل السياسي. أمّا أبو صالح فتخانق مع سعد بالسياسة من سنين وبعدهم متخانقين، الله يسامحهم… وفريد، إذا قصدك فريد مكاري، فما بعرفوا، وبسمع من بعيد انو واقف حد سعد… إلاّ بهاء يا أبا بهاء.

– أبو بهاء: شو قصتو بهاء؟

– بهاء استذكر الزعامة بعد 17 سنة من رحيلك يا أبا بهاء. ويعود لكي يأخذ ما يظنّ أنّه من حقّه وبدو ياخد تاره من خيّو بس المشنوق ما تاركو كل يوم بيستناولو… هو لا يعرف أنّ الظروف تغيّرت، والرصيد قليل… الاستطلاعات تشير إلى خسارات مدوّية، خصوصاً في بيروت.

– أبو بهاء: خسارات شو؟ ليش في انتخابات؟

– نعم. ننتظر الانتخابات التي نظنّ أنّها ستنتشلنا ممّا نحن فيه، لكن فيما يبدو ستكون أسوأ انتخابات تمرّ على الجمهورية اللبنانية وستعيد الشرعية لمن خرّب البلاد وهجّر العباد، خصوصاً أنّ أصدقاءك في الغرب بايدن وماكرون، يعتبرون أنّ خلاصنا يمرّ عبر الانتخابات… طلعوا ما بيعرفوا البلد…

– أبو بهاء: مين ماكرون؟ مش سامع فيه هيدا!

– ماكرون خليفة صديقك الراحل جاك شيراك يا أبا بهاء… هو رئيس فرنسا الحالي. سقى الله أيام شيراك، أيام الزعامات الحقيقية. ماكرون هو الآخر جزء من شقائنا يا أبا بهاء. يوم انتفضنا بوجه الجميع بعد انفجار مرفأ بيروت، جاء ماكرون من باريس مسرعاً، ورتّب لهم الأوراق ليصمدوا بوجهنا.

إقرأ أيضاً: يا حبيب الروح… روح شوف مستقبلك

– أبو بهاء: كمان مرفأ بيروت انفجر؟ كل هيدا بغيابي يا أبو زهير؟

– شيخ رفيق لو أردت أن أخبرك بالتفاصيل ماذا حلّ بعد رحيلك لقضينا طوال النهار في هذه الحديقة أخبرك وأنت تسمع وتضرب كفّاً بكفّ. أتدري يا أبا بهاء أنّ ميشال عون…

فجأة، سمعت أمّ زهير تصرخ: أبو زهير قووووم… صارت الساعة 8 والركوة ع النار.

*هذا المقال من نسج خيال الكاتب

مواضيع ذات صلة

الحروب ليست حلّاً…  

عالم الحروب اليوم أعمق وأخطر، وقد وصل إلى قلب أوروبا بهجمة روسيا على أوكرانيا عام 2022 التي استمرّت حتى اليوم. وكأنّما كانت إسرائيل تنتظر مسوِّغاً…

“الحزب” يتموضع مسبقاً شمال اللّيطاني؟

يتحضّر “الحزب” لـ”اليوم التالي” للحرب. لا يبدو أنّ بقيّة لبنان قد أعدّ عدّة واضحة لهذا اليوم. يصعب التعويل على ما يصدر عن حكومة تصريف الأعمال…

كيف استفاد نتنياهو من تعظيم قدرات الحزب للانقضاض؟

كلّما زار آموس هوكستين بيروت في الأشهر الماضية، كان المسؤولون اللبنانيون وبعض المتّصلين به من السياسيين يسرّبون بأنّها “الفرصة الأخيرة”. لكنّه ما يلبث أن يعود،…

نتنياهو هزم الجنرالات…

ما حكاية الخلاف الشديد بين بنيامين نتنياهو وجنرالات الجيش والأمن في إسرائيل؟ لماذا يبدو أبطال الحرب أقرب إلى التسويات السياسية مع الفلسطينيين، بل مع حلّ…