الصراع الآذريّ – الأرمنيّ مثال على التناقضات في لعبة الأمم

مدة القراءة 7 د


قضمت أذربيجان إقليم ناغورني كاراباخ أو قرة باغ بالآذرية (الحديقة السوداء) الموجود في جيب داخلي تحيط به أذربيجان من كلّ الجهات ولا يتوافر له إلا “ممرّ لاتشين” الذي قطعه الجيش الآذري على الرغم من قرار الأمم المتحدة وقرار محكمة العدل الدولية بفكّ الحصار عن هذا المنفذ الإنساني الوحيد.
تسكن إقليم ناغورني كاراباخ أغلبية أرمنية ساحقة على الرغم من وجوده داخل الأراضي الآذرية. سعت هذه الأغلبية إلى الانفصال عن أذربيجان وإعلان دولتها “جمهورية أرتساخ” وعاصمتها مدينة ستيباناكرت. في أوائل التسعينيات من القرن الفائت، مع انحلال الاتحاد السوفياتي، تمكّنت من استغلال تفكّك دول المنظومة وسيطرت على الإقليم وعلى مساحات إضافية من الأراضي الآذرية المحيطة به، فاستطاعت ربط الإقليم عبر كوريدور عريض بجمهورية هايستان (أرمينيا) الأمّ.

تاريخ الصراع الآذريّ – الأرمنيّ
يعود الصراع الآذري – الأرمني إلى قرون موغلة في التاريخ، بحيث يرى الأرمن أن حدود مملكتهم القديمة تمتدّ في مناطق واسعة داخل تركيا وأذربيجان وحتى عاصمتها باكو وإلى جورجيا. وأن الآذريين أو القبائل التركية الرعوية استوطنت هذه المناطق القوقازية بالتزامن مع الحملات السلجوقية والمغولية المتعاقبة، قبل ما يقارب الألف سنة .وما تزال قوى أرمنية قومية متطرّفة تحنّ إلى خارطة أرمينيا الكبرى وتسعى إليها. وليس تنظيم ما سُمّي بـ”الجيش السرّي الأرمني” ذي العمليات الأمنيّة المتطرّفة آخر حبّات عنقودها، بل تلاقيه في هذه النوستالجيا القاتلة أحزاب أرمنية عريقة لها امتداداتها في الدياسبورا الأرمنية الواسعة من إيران مروراً بسوريا ولبنان ووصولاً إلى أوروبا وشمالي أميركا. وفي عام 1905 وقعت معارك بين الأرمن والآذريين في باكو عاصمة أذربيجان ذاتها، وفي عام 1918 عقب سقوط روسيا القيصرية على أيدي البلاشفة الشيوعيين. وتكرّرت في عامَي 1920 و1922، بينما خفتت طوال الحقبة السوفياتية. وبالمقابل، كانت يريفان عاصمة أرمينيا الحالية ذات أغلبية آذرية، وكذلك أجزاء أخرى من أرمينيا. وأدت عمليات التهجير المنهجي بين الطرفين إلى تبادل قسري للسكان، انتهى مع قيام الاتحاد السوفياتي، وظلّ الجمر تحت الرماد عشرات السنين، إلى أن اشتعلت مجدداً عام 1991، مع سقوط السوفيات وانبعاث القوميات.

صراعات القوقاز الدموية القاتلة كما صراعات البلقان المميتة، ظهر أحد أوجهها من جرّاء طمس الشعور القومي للدول المنضوية لإخفاء التناقضات ولمنع انتفاضات الشعوب على سياسة الإلحاق والتبعية

صراعات القوقاز الدموية القاتلة كما صراعات البلقان المميتة، ظهر أحد أوجهها من جرّاء طمس الشعور القومي للدول المنضوية لإخفاء التناقضات ولمنع انتفاضات الشعوب على سياسة الإلحاق والتبعية. وقد أقدم الزعيم اليوغسلافي جوزف بروز تيتو على دمج قوميات سلوفينيا وكرواتيا والجبل الاسود والبوسنيين والصرب تحت حكم مركزي واحد. اتّبع في ذلك سياسة موسكو السوفياتية، الأمر الذي قاد إلى حروب مضنية داخل البلقان في قلب أوروبا ما زالت القارّة العجوز تعاني من آثارها وتداعياتها الاقتصادية والأمنية والبشرية.
سبق الزعيم السوفياتي جوزف ستالين تلميذه النجيب جوزف تيتو. فخوفاً من القوميات المتعدّدة المنتشرة داخل الاتحاد السوفياتي، ودرءاً لإذكاء الشعور القومي والرغبة في الاستقلال عن الاتحاد السوفياتي، طبّق ستالين سياسة الترانسفير والتهجير. فشرّد الملايين من أوطانهم الأصلية ونشرهم من أقصى الشرق في فلاديفوستوك الواقعة على المحيط الهادئ، وفي سيبيريا شمالاً، إلى حدود بولونيا وسلوفاكيا والمجر غرباً. وما الاستيلاء الروسي على شبه جزيرة القرم في عام 2014، وحرب بوتين على أوكرانيا إلا أثر من آثار سياسة التهجير التي اتّبعها ستالين وحزبه الحاكم.
نال القوقاز (أرمينيا وجورجيا وأبخازيا وأوسيتيا وأذربيجان) نصيبه من وضع شعوبه وقومياته داخل “طنجرة ضغط” واحدة. فعندما انهار الاتحاد السوفياتي، انفجرت الصراعات مجدّداً، ومنها الصراع الآذري – الأرمني حول ناغورني كاراباخ.
استغلّت أذربيجان الظروف الدولية لتشنّ حملاتها العسكرية الأخيرة على جيب ناغورني كاراباخ التي أدّت إلى استسلام أرمن الجيب لجيش أذربيجان، فانتهت “جمهورية أرتساخ”.
لم تتمكّن أرمينيا بسبب أوضاعها الاقتصادية وفقرها، ونتيجة صراعات الحكّام في يريفان على السلطة، من مواصلة دعم أرمن ناغورني كاراباخ، فتخلّت بشكل أو بآخر عن إمداد سكان الجيب بمقوّمات الصمود حتى المتواضعة منها. هذا بعدما كانت يريفان قد تجاوبت مع الوساطة الروسية والتقى رئيس حكومتها نيكول باشينيان عدّة مرّات مع رئيس أذربيجان إلهام علييف، من دون أن يرى تنفيذ الاتفاق بينهما النور. تحوّلت هذه اللقاءات إلى ضغط عارم على باشينيان (المهدّد حكمه حالياً بالسقوط) نتيجة لاتّهامات شعبية له بالخيانة وبالتخلّي عن الأرض والشعب.

استغلّت أذربيجان الظروف الدولية لتشنّ حملاتها العسكرية الأخيرة على جيب ناغورني كاراباخ التي أدّت إلى استسلام أرمن الجيب لجيش أذربيجان، فانتهت “جمهورية أرتساخ”

روسيا وتركيا والصراع الآذريّ الأرمنيّ
لموسكو خياراتها التي من خلالها قرّرت إبقاء قواتها الفاصلة في إقليم ناغورني كاراباخ غير فعّالة أثناء العملية الآذرية الأخيرة:
– تجمعها مع أذربيجان عوامل الطاقة والنفط والتشاطؤ حول بحر قزوين، ودور باكو في تمرير السلع والبضائع التي لا يمكن لروسيا الحصول عليها بفعل العقوبات.
– تخطب موسكو ودّ تركيا في عدّة مواقف، ولا تريد إغضاب أنقرة الحليفة الأساسية لباكو التركمانية في الصراع الدائر في القوقاز. ويريد بوتين إجراء مقايضة مع إردوغان يعطيه من خلالها في ناغورني كاراباخ ليأخذ منه في شمال سوريا.
– يتطلّع بوتين دائماً إلى جذب السياسة التركية وإبعادها عن سياسة الأطلسي، لا بل أحياناً تتحوّل تركيا إلى حصان طروادة داخل الحلف، كما حصل مع ممارستها لحقّ الفيتو بوجه انضمام السويد إلى حلف الناتو.
– خطط روسيا للتحايل على العقوبات الأوروبية من خلال تمديد أنابيب غاز إلى الموانئ التركية لجعلها منصّة لبيع غازها إلى أوروبا.
– مصلحة روسيا في بناء مفاعل نووي ثالث جديد لتركيا تمّ الاتفاق عليه بين بوتين وإردوغان.

إيران والصراع الآذريّ الأرمنيّ
من ناحيتها إيران الجارة الجنوبية لكلّ من أرمينيا وأذربيجان والممتدّة حدودها مع الدولتين معاً، بدّلت من مواقفها وعدّلتها. فبعدما كانت تتحمّس لتأييد سياسة يريفان على حساب باكو، وتمدّ أرمينيا بالمساعدات، وتدعو إلى منع حصار ممرّ لاتشين، وتهدّد أذربيجان بإقفال الحدود معها ومنعها من إنشاء ممرّ جديد يربط أذربيجان بمنطقة ناخاتشيفان الغربية على الحدود التركية، وتطلب من قاسم سليماني إنشاء تنظيم آذري تحت اسم “حسينيون” على شاكلة “فاطميون” الأفغاني و”زينبيون” الباكستاني وحزب الله اللبناني، أعلنت طهران أنّها تعتبر ناغورني كاراباخ أراضي آذرية وإن كانت أغلبية سكانها من الأرمن. وتخلّت طهران عن مواقفها السابقة بسبب الوجود الآذري الذي يعدّ ثاني أكبر قومية بعد الفرس في شمال إيران ويتعاطف مع أذربيجان، وخوفاً من زيادة التعاون بين أذربيجان وإسرائيل التي لها وجود فعّال في مطارات أذربيجان ونقاط رادارات ومراقبة وتنصّت لا تبعد عن الحدود الإيرانية الشمالية أكثر من 20 كيلومتراً، ولذلك اتجهت بوصلة مصالح طهران نحو أذربيجان.

إقرأ أيضاً: “الفوضى” تلاحق الدول الكبرى أيضاً

أميركا والصراع الآذريّ الأرمنيّ
غابت الولايات المتحدة أو تغيّبت عمّا يجري في إقليم ناغورني كاراباخ وفي القوقاز عامّة، على الرغم من قيامها أخيراً بمناورات عسكرية مشتركة مع الجيش الأرمني، وعلى الرغم من وجود مصلحة لواشنطن بأن تتورّط روسيا في وحول القوقاز لتُستنزف على جبهة جديدة قد تخفّف من حدّة حربها على أوكرانيا. إلا أنّ استمرار تدفّق الغاز والنفط من أذربيجان يشكّل أولوية في مقابل الحصول على أصوات الناخبين الأرمن في انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة في الولايات المتحدة. ربّما قد يكفي هؤلاء الناخبين الاعتراف بالإبادة الأرمنية وبإجراء مناورات مشتركة لكي يمنحوا أصواتهم لبايدن وللحزب الديمقراطي.
لوحة القوقاز المتضمّنة للصراعات التاريخية، كتلك الجارية في ناغورني كاراباخ، تخبو وتخمد حيناً لتعود فتتفجّر مجدّداً، وتعبّر عن لعبة المصالح بالقطعة بين الدول المتنافسة، فتراها في ملفّات متضاربة وفي أخرى متعاونة على الرغم من كلّ الخلافات والاختلافات.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: BadihYounes@

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…