أبعد من انقلاب عسكريّ في النيجر

مدة القراءة 6 د


ليس الانقلاب العسكري الذي شهدته النيجر والذي أطاح الرئيس المنتخب محمد بازوم، وهو عربيّ، سوى ضربة أخرى تتلقّاها السياسة الإفريقية لفرنسا. تخسر فرنسا حلفاءها في القارّة السمراء تباعاً. قبل النيجر، حيث رفع المتظاهرون في العاصمة نيامي أعلاماً روسيّة وأطلقوا هتافات معادية للسياسة الفرنسيّة، خسرت باريس مالي وبوركينا فاسو في عامَيْ 2021 و2022.

ليس سرّاً أنّ فرنسا انكفأت عسكرياً في اتجاه النيجر بعد كلّ ما تعرّضت له في مالي وبوركينا فاسو. ما نشهده حالياً هو، في الواقع، فشل ليس بعده فشل لسياسة يقودها إيمانويل ماكرون الذي يتصرّف بطريقة توحي بأنّه من السياسيّين الهواة الذين لا يعرفون، في العمق، الملفّات التي يتعاطون بها. ستكون النيجر خسارة كبيرة لفرنسا التي لديها قوات في هذا البلد، إضافة إلى أنّه بمنزلة قاعدة استخباراتية إفريقيّة في غاية الأهمية بالنسبة إليها. ليس معروفاً ما السياسة التي سيتبعها الجنرال عبد الرحمن تشياني قائد الحرس الرئاسي الذي أعلن تولّيه السلطة. يعتقد مراقبو الوضع النيجيريّ أنّ تشياني رجل غامض ليس مستبعداً أن يكون معادياً للغرب عموماً.

ما حدث في النيجر أبعد من انقلاب. إنّه انعكاس للفشل الفرنسي من جهة، وإصرار روسيّ على عدم القبول بالهزيمة الأوكرانيّة والنتائج المترتّبة عليها من جهة أخرى

كلّ ما يمكن قوله أنّ النيجر دخل مرحلة المجهول، بل يمكن الذهاب إلى وضع ما جرى في نيامي في إطار السعي الروسيّ إلى تأكيد أنّ فلاديمير بوتين لم يخسر الحرب الأوكرانيّة وأنّه ما يزال قادراً على الردّ وإيذاء الغرب في أنحاء مختلفة من العالم، بما في ذلك إفريقيا.

ليس صدفة ظهور يفغيني بريغوجين قائد مجموعة “فاغنر” في كواليس القمّة الروسيّة – الإفريقيّة التي انعقدت في سانت بطرسبرغ خلال أحداث النيجر وقوله إنّ “شعب النيجر يخوض حرب تحرّر من الاستعمار”. لا يدري بريغوجين أنّ روسيا وقبلها الاتحاد السوفيتي لم يقدّما لإفريقيا في يوم من الأيّام سوى السلاح والتخلّف ودعم الأنظمة القمعية.

ما حصل في النيجر، البلد الفقير الذي فيه مناجم يورانيوم، ضربة للولايات المتحدة أيضاً، ولإدارة جو بايدن تحديداً. في كانون الأوّل 2022، انعقدت في واشنطن قمّة إفريقيّة – أميركيّة. حرص بايدن على جلوس الرئيس النيجيري بازوم إلى يمينه. أعطى إشارة إلى وجود تقدير أميركي لبلد إفريقيّ يُنتخب فيه الرئيس ديمقراطياً. وفّرت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة مساعدات للنيجر حيث أقامت قاعدة جويّة، فيما عزّزت فرنسا وجودها العسكري في منطقة في غاية الأهمّية هي منطقة الساحل الإفريقيّ.

على الرغم من الإصرار الأميركي على غياب الدليل على تدخّل روسيّ مباشر، أو عبر مجموعة “فاغنر” في النيجر، ليس ما يشير إلى أنّ التطوّرات التي شهدها هذا البلد حصلت بالصدفة. كان يفغيني بريغوجين حاضراً في قمّة سانت بطرسبرغ، وشوهد يصافح أحد المسؤولين في جمهورية إفريقيا الوسطى، حيث هناك وجود عسكري لـ”فاغنر”. هناك وجود لهذه المجموعة العسكريّة الروسيّة في مالي وإفريقيا الوسطى أيضاً. ليس مستبعداً أن يصبح لـ”فاغنر” وجود في النيجر مستقبلاً بحجّة أنّ على النظام الجديد الذي ترفض فرنسا الاعتراف به الدفاع عن نفسه.

هناك من دون شكّ موجة معادية لفرنسا ركبها كبار الضبّاط في النيجر. هؤلاء متعطّشون إلى السلطة. لذلك سارعوا إلى تجميد الحياة السياسيّة، بما في ذلك النشاطات الحزبيّة. لم تستطِع فرنسا المحافظة على وجودها ونفوذها في المنطقة. كذلك لم تستوعب الولايات المتحدة أبعاد النشاط الذي تمارسه “فاغنر” في منطقة الساحل التي تحوّلت إلى منطقة تمارس فيها المنظمات الإرهابية مثل “داعش” نشاطاً واسعاً. اكتفت الإدارة الأميركيّة، إلى الآن، بالتنديد بالانقلاب العسكري في النيجر. هل تستطيع الذهاب إلى أبعد من ذلك؟

تراجعت فرنسا في لبنان واضطرّت إلى تغيير سياستها. ليس ما يمنع تراجعها، يوماً ما، في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل الممتدّة من موريتانيا إلى جنوب السودان، والتعاون مع القوى الساعية إلى الاستقرار بدل السقوط في الفخّ الجزائري

تكمن مشكلة السياسة الفرنسيّة في عجز باريس عن اتّخاذ موقف واضح وصريح حيال ما يدور في منطقة الساحل الإفريقي التي كان مفترضاً أن تكون ملعباً خاصّاً بها. لم تتوقّف فرنسا لحظة واحدة، على سبيل المثال وليس الحصر، عند الموقف الجزائري من قضيّة الصحراء المغربيّة والأسباب التي تدعو النظام الجزائري إلى متابعة حرب الاستنزاف التي يشنّها على المغرب. ثمّة تذبذب فرنسي ليس بعده تذبذب مع إصرار مسبق على تجاهل الدور الذي يلعبه النظام الجزائري في تكريس حال من عدم الاستقرار في كلّ الساحل الإفريقي عن طريق دعم أداة مثل جبهة “بوليساريو” كان يريد فرضها على القمّة الروسيّة – الإفريقيّة. رفضت موسكو ذلك. لم يكن في استطاعة فلاديمير بوتين تحمّل مقاطعة المغرب للقمّة. تمثّل المغرب برئيس الوزراء عزيز اخنوش الذي حضر إلى سانت بطرسبرغ.

يدلّ الموقف الفرنسي من موضوع الصحراء المغربيّة على تذبذب ليس بعده تذبذب. إن دلّ هذا الموقف على شيء، فهو يدلّ على رغبة في الخضوع للابتزاز الجزائري تماماً مثلما هناك رغبة فرنسيّة في الخضوع للابتزاز الذي تمارسه “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران على الصعيد اللبناني.

تراجعت فرنسا في لبنان واضطرّت إلى تغيير سياستها. ليس ما يمنع تراجعها، يوماً ما، في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل الممتدّة من موريتانيا إلى جنوب السودان، والتعاون مع القوى الساعية إلى الاستقرار بدل السقوط في الفخّ الجزائري.

في النهاية، تدفع فرنسا في النيجر ثمن سياسة تقوم على التذاكي. يمنعها هذا التذاكي من اتّخاذ موقف مع الحقّ في ما يخصّ الصحراء المغربيّة. يسمح مثل هذا التذاكي المترافق مع مقدار كبير من التذبذب لروسيا بالسعي إلى إثبات أنّها ما زالت تلعب دوراً في إفريقيا. تبدو روسيا مصرّة على هذا الدور، الذي لا أفق له، على الرغم من غرقها في الوحول الأوكرانيّة. يظلّ الحدث النيجريّ مثلاً صارخاً على ذلك وعلى غياب الرؤية السياسيّة لدى دولة مستعدّة للخضوع للابتزاز…

إقرأ أيضاً: الصدر يخلط أوراق “الإطار الشيعي”؟

ما حدث في النيجر أبعد من انقلاب. إنّه انعكاس للفشل الفرنسي من جهة، وإصرار روسيّ على عدم القبول بالهزيمة الأوكرانيّة والنتائج المترتّبة عليها من جهة أخرى!

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…