المناسبة اجتماعية طرابلسيّة. لكنّ الموسم رئاسي لبناني بامتياز. الحاضرون من نوّاب يكفون عدداً لنصاب تعطيل وفوز وانعقاد جلسة حتى.
والكلام بينهم عن كلمة واحدة: مَن الأوفر حظّاً للفخامة؟
فجأة وصل بخطاه الثقيلة. دخل المكان فألقى الوجوم عليهم جميعاً. بنزقه الطاووسيّ سمح لهم بالسلام عليه. تحلّقوا حوله منصِتين صامتين. سأله أحدهم همساً عن الرئاسة. رسم نصف ابتسامة صفراء، قبل أن يبلغهم الفرمان: انتهى الأمر. صدر القرار. لا انتخاب. ستمدّدون. وبرفع أيديكم… لنحصي أصواتكم، تماماً كما نحصي أنفاسكم…
وحدها الجملة الأخيرة لم يلفظها. مع أنّها كانت مضمَرة في رأسه، وفي ما يشبه رؤوسهم جميعاً. الباقي كلّه حصل حرفيّاً.
كان بينهم زعامات من الزمن الحالي. هم أنفسهم. بكوات هذه اللحظة وقبضاياتها ومسترئسوها وسياديّوها ومقاوموها ومحرّروها ومتشدّقو استظهارات العنفوان.
كانوا كلّهم بإمرة خطوته وأمر “خطّه الوطني والقومي”.
مع أنّهم قبل أيام قليلة فقط، طبلوا الدنيا، من على بحيرة قريبة من طرابلس، بخطابات رافضة للتمديد ومؤكّدة لحرّيّة قرارهم واستقلاليّة آرائهم، ولم ينسوا شعارات الكرامات.
لكنّ ذلك لم يمنعهم بعد 19 يوماً على تعليماته، من النزول إلى ساحة “سيّد نفسه”، ليرفعوا 111 إصبعاً ويداً وعنقاً وأكثر: نعم لأمر الغازي بالتمديد للمختار أبي جورج الياس الهراوي.
بعد ثلاثة أعوام غادر الهراوي قصر بعبدا، دامغاً آخر ولايته بآخر الاستفتاءات على شعبيّته. إذ خسر انتخابات بلديّة مسقط رأسه.
يعرفون في روما بشكل جازم أنّ واشنطن مؤيّدة. لكنّها غير مهتمّة ولا منخرطة. بينما باريس أكثر انخراطاً
بعد عشرة أعوام غادر غازي كنعان هذه الحياة، بعدما فقد اطمئنانه الوجوديّ إلى ثقة سيّده بولائه.
بعدها تدمّر بلَدان حتى ركام الأنقاض. سوريا ولبنان.
بعد 28 عاماً على تلك البهدلة الطرابلسية اللبنانية العامّة، كأن هناك من يحلم بوراثة دور أبي يعرب. والأسوأ، كأنّ هناك من يتوق منتظراً من يأمره برفع إصبعه، ليكون “عبداً مأموراً لعبد مأمور”، كما قال ذات يوم سيادة الرئيس الدكتور…
الفاتيكان: لا تكرّروا كارثة التسعينات
نعم هذا المشهد كان حاضراً في روما هذا الأسبوع. مع أنّ في لبنان من نسي كلّ شيء ولم يتعلّم شيئاً. لكنّ هناك من تعلّم ولم ينسَ.
سمع اللبنانيون في الفاتيكان قبل أيام كلاماً من نوع: لا تكرّروا كارثة التسعينيات. انقسامكم حينها هو ما جرّ عليكم وعلى وطنكم كلّه ويلاتها كلّها. لو دخلتم الطائف يومها موحّدين، لكان طُبّق كما كان يُفترض أن يُطبّق. ولو رفضتموه موحّدين، لما طبّق منه حرف.
أفضل تسوية في العالم، في ظلّ تشرذمكم، هزيمة. وأسوأ تسوية بمواجهة وحدتكم، مواجهة سهلة.
بهذا المنطق والهاجس والتفكير، تمنّى الكرسي الرسولي على البطريرك الراعي أن تكون روما محطّته قبل باريس للتنسيق والتشاور والتفكير بكلّ الخيارات. وهي محطّة انتهت إلى تمنٍّ ثانٍ بالاطّلاع على نتائج لقائه الفرنسي الرئاسي، ومتابعة الجهد والعمل.
يعرفون في روما بشكل جازم أنّ واشنطن مؤيّدة. لكنّها غير مهتمّة ولا منخرطة. بينما باريس أكثر انخراطاً. لكنّها أكثر شروداً نحو حساباتها ومصالحها “التوتاليّة” الكولونياليّة. ومع ذلك تؤمن روما بأنّ التنسيق بين المعنيّين كلّهم، قادر على ضبط الاتجاه ومنع الانزلاقات الخطيرة.
في باريس قيل إنّ بكركي رفعت معادلة ثلاثية بديهيّة:
1- لا نريد تحدّي أيّ جماعة لبنانية ولا كسر أيّ فريق.
2- لكن أيضاً لا نقبل كسرنا ولا إخضاعنا ولا قهرنا.
3- لذلك لا نطلب منكم مساعدتنا على كسر أحد. ولا نريد لكم أن تكونوا أداة لانكسارنا. بل أن تساعدوا لبنان كلّه على تسوية بعناوين السيادة والإصلاح وكرامة الجميع.
كيف السبيل؟
كيف؟ الجواب سهل. وله صيغتان: إمّا انتخاب. وإمّا إجماع.
أوّلاً الانتخاب. نعم انتخاب. مثل كلّ الأنظمة الديمقراطية والشعوب المتحضّرة. ولنوقف التشدّق بذرائع الوحدة الوطنية وأخواتها، للانقلاب على مفهوم الانتخاب وثقافته، تيمّناً بالمحيط وفرضاً لفرمانات التعيين.
سنة 1958، حتى في ذروة التسوية الداخلية والعربية والدولية على فؤاد شهاب، ذهب البرلمان اللبناني، يوم كان برلماناً وكان لبنانياً، إلى الانتخاب. وفرض ريمون إدّه على شهاب، ومن خلفه عبد الناصر وأيزنهاور، انتظار دورة ثانية ليفوز.
وسنة 1970، ذروة الديمقراطية اللبنانية، ذهب النواب اللبنانيون، يوم كانوا كذلك، إلى دورة أولى نال فيها سليمان فرنجية 38 صوتاً فقط، ثمّ ثانية أُلغيت بسبب وجود ورقة زائدة قيل إنّ ريمون إده نفسه وضعها لأنّه لم يطمئن إلى النتيجة، ثمّ ثالثة فاز فيها فرنجية رئيساً بفارق صوت واحد. ولم يخرج نائب واحد من القاعة.
حتى في تسوية الطائف ولحظتها المصيرية، نال رينيه معوّض في الدورة الأولى 36 صوتاً. نافسه جورج سعادة بـ16 صوتاً. والهراوي نفسه بخمسة أصوات. فرُفعت الجلسة للتشاور بلا ختم محضر، ثمّ كانت دورة ثانية انتُخب فيها معوّض.
كان هذا كلّه قبل أن نصير في دولة أو في جزمة غازي كنعان. فصار الانتخاب حراماً. وصار الاستفتاء هو النظام ليكون قناعاً بشعاً للإملاء وفرض الإذلال.
إقرأ أيضاً: المبادرة البطريركيّة: رئيس بغالبيّة مطلقة؟
أين المشكلة أو الجريمة إذا نزل النواب إلى جلسة بمرشّحَين أو أكثر؟ ولبثوا ومكثوا وتشاوروا واختاروا؟
لماذا كل هذا الزعيق والتهويل والتهديد بمؤامرة متخيَّلة مزعومة مختلَقة ومتذرَّع بها؟
لا انتخابات؟
حسناً، البديل إجماعٌ وطنيّ على رئيس إجماع ورئيس وطن. لا فرض ولا إملاء بلا قواعد للرئيس المقبل.
كلّ هذا الكلام وأكثر قيل بين روما وباريس، ولو بترجمة لطيفة تقتضيها موسيقية اللغتين الإيطالية والفرنسية.
وهو ما جعل أحدهم يكتشف ويستنتج: الآن فهمت لماذا كانت 17 تشرين، ولماذا لم تنتهِ… ولن.
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@