مناورة الحزب… لبنان شأن داخليّ إيرانيّ

مدة القراءة 6 د

كانت المناورة العسكريّة التي نفّذها الحزب في عرمتى (قضاء جزّين الجنوبي) خارج منطقة عمليات القوّة الدولية. هذا أمر مهمّ نظراً إلى أنّه يمنع أيّ طرف من القول إنّ الحزب خرق القرار الرقم 1701 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهو القرار الذي يؤكّد لبنان احترامه له.

يحصل اختراق لبناني للقرار 1701، الذي أوقف حرب صيف عام 2006، بين حين وآخر، عندما تُطلق “حماس” وغير “حماس” صواريخ في اتجاه المستوطنات الإسرائيلية الحدوديّة. كلّ ما تريد “الجمهوريّة الإسلاميّة” قوله عبر مثل هذه الصواريخ أنّ لديها غير واجهة في لبنان الذي ليس سوى مجرّد “ساحة” تستخدمها في خدمة مشروعها التوسّعي في المنطقة.

كانت المناورة العسكريّة التي نفّذها الحزب في عرمتى خارج منطقة عمليات القوّة الدولية. هذا أمر مهمّ نظراً إلى أنّه يمنع أيّ طرف من القول إنّ الحزب خرق القرار الرقم 1701 وهو القرار الذي يؤكّد لبنان احترامه له

تأتي المناورة العسكريّة الأخيرة للحزب استكمالاً لكلام صدر حديثاً عن السفير الإيراني في لبنان مجتبي أماني. أوضح السفير في ندوة عُقدت في بيروت أنّ الكلام الوارد في البيان الثلاثي السعودي – الصيني – الإيراني في شأن الامتناع عن التدخّل في الشؤون الداخليّة للدول الأخرى لا يخصّ سوى إيران والسعوديّة. قال السفير الإيراني ردّاً على سؤال في شأن عبارة “احترام سيادة الدول” الواردة في اتفاق بيجينغ إنّ “هذه الجملة تعني حصراً الدولتين اللتين وقّعتا الاتفاق”، أي أنّها تعلن انتهاء “الحرب”، بين السعوديّة وإيران فقط.

شأن داخليّ إيرانيّ

كان موقع “أساس” أوّل من نقل كلام السفير الإيراني (راجع مقال محمد بركات في “أساس” في 13 أيّار الفائت)، الذي كان الهدف منه واضحاً كلّ الوضوح. الهدف، من هذا الكلام المهمّ الذي يمكن وصفه بأنّه شرح للمفهوم الإيراني للبيان الثلاثي الصادر في العاشر من آذار الماضي، إفهام كلّ من يعنيه الأمر أنّ لبنان شأن داخلي إيراني. في الواقع، ليست المناورة التي أصرّ الحزب على أن تحظى بتغطية واسعة في كلّ وسائل الإعلام اللبنانيّة والعربيّة والدوليّة، سوى رسالة في اتّجاهين. الأوّل داخلي والآخر إقليمي وذلك مباشرة بعد انعقاد القمّة العربيّة في جدّة.

تعمّد الحزب على الصعيد الداخلي تأكيد أنّ الإمرة له على الأرض اللبنانيّة. استعجل الحزب تنفيذ المناورة التي هيّأ لها منذ فترة طويلة لتكون في الذكرى الثالثة والعشرين للانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في 25 أيّار 2000.

كان مطلوباً أن تأتي المناورة مباشرة بعد انتهاء اختتام القمّة العربيّة لأعمالها كي لا تكون لدى اللبنانيين أيّ أوهام أو رهانات على القمّة ونتائجها. لا مزاح لدى إيران في هذا المجال. لديها سيطرة كاملة على البلد ومفاصله. تستطيع أن تفعل فيه ما تشاء حيثما أرادت. تفادت منطقة عمليات القوّة الدوليّة من ناحية الشكل وليس المضمون. تقع بلدة عرمتى وسط ممرّ أرضي جبلي في غاية الأهمّيّة. يصل الممرّ بين النبطيّة ومنطقتها من جهة وميدون في البقاع الغربي من جهة أخرى. ويشكّل الممرّ قاعدة انتشار أساسيّة لمقاتلي الحزب منذ انسحاب هؤلاء من جنوب لبنان نتيجة حرب صيف 2006 وإنشاء منطقة عمليات للقوّة الدولية المعزّزة بموجب القرار 1701.

في سنة 2023، ينفّذ الحزب ما ردّده غير مسؤول فيه، بمن في ذلك أمينه العامّ حسن نصرالله، عن أنّ حركات المقاومة التي “تحرّر” أيّ بلد من الاحتلال تنتقل بعد ذلك إلى تسلّم السلطة. لم يُقدم الحزب على هذه الخطوة بعد الانسحاب الإسرائيلي مباشرة بسبب تعقيدات الوضع اللبناني والوجود السوري فيه وقتذاك. ليس ما يدعو في الوقت الحاضر إلى الامتناع عن تسمية الأشياء بأسمائها، أي أنّ من يمتلك السلطة في لبنان هو الحزب الذي “حرّر البلد”، فيما الباقي تفاصيل.

ليس أسهل من رفع شعارَيْ “المقاومة” و”الممانعة” لتنفيذ المطلوب من لبنان إيرانياً، خصوصاً أنّ إسرائيل تعرف قبل غيرها أنّ سلاح الحزب موجّه إلى الداخل اللبناني وليس إلى أيّ مكان آخر

لكن ما لا بدّ من ملاحظته على هامش المناورة أنّ عرمتى ليست بعيدة عن العيشيّة، وهي القرية التي ينتمي إليها قائد الجيش العماد جوزف عون أحد أبرز الأسماء المطروحة لرئاسة الجمهوريّة. من هذا المنطلق، قد يكون مفيداً التذكير بأنّ العيشيّة كانت مسرحاً لمجزرة رهيبة في تشرين الأوّل من عام 1976 على يد قوات فلسطينية، معظمها من منظمّة “الصاعقة” التابعة للنظام السوري. راح ضحيّة المجزرة 54 من أهل القرية المسيحيّين!

مناورة عرمتى: ما قبل وما بعد

بعد مناورة عرمتى ليس كما قبلها. فقد أظهرت “الجمهوريّة الإسلاميّة” أنّها تستطيع أن تفعل ما تشاء في لبنان وأن لا أحد يستطيع الوقوف في وجه من يرشّحه لرئاسة الجمهوريّة، أكان الشخص سليمان فرنجيّة أو آخر يقع الخيار الإيراني عليه. يستطيع رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي الاعتراض على المناورة. لا بأس في ذلك، لكنّ ذلك لن يغيّر شيئاً في المعطيات اللبنانيّة وما يدور على أرض الواقع في الجنوب كما في الشمال.

يظلّ الأهمّ من ذلك كلّه أنّ المناورة رسالة إلى العرب الذين التقوا في جدّة. فحوى الرسالة أنّ لبنان لم يعُد لبنان وأنّ حضوره القمّة لا يعني أيّ تغيير على أرض الواقع. يظلّ لبنان، إلى إشعار آخر، ورقة إيرانيّة لا أكثر. ليس مهمّاً ما يحلّ بلبنان واللبنانيين، بما في ذلك أبناء الطائفة الشيعيّة الذين تضرّروا، في معظمهم، مثلهم مثل غيرهم، من الانهيار الاقتصادي الحاصل. في النهاية، يبقى أهمّ ما تستهدفه إيران إفقار المجتمع اللبناني وتغيير طبيعته مع نشر البؤس في كلّ مكان. كلّما كان لبنان فقيراً وبائساً… سهُلت السيطرة عليه وعلى مفاصل السلطة فيه.

ليس أسهل من رفع شعارَيْ “المقاومة” و”الممانعة” لتنفيذ المطلوب من لبنان إيرانياً، خصوصاً أنّ إسرائيل تعرف قبل غيرها أنّ سلاح الحزب موجّه إلى الداخل اللبناني وليس إلى أيّ مكان آخر.

إقرأ أيضاً: الحزبُ مُناوراً بالسلاح: العودة إلى لبنان؟

يحصل ذلك كلّه في ظلّ ضياع مسيحي ليس بعده ضياع وفراغ سنّيّ ليس بعده فراغ. لعلّ أفضل تعبير عن الضياع المسيحي استمرار هجرة الشباب من أبناء الطائفة وعدم الاتفاق على مرشّح معقول لرئاسة الجمهوريّة، فيما قد يكون أفضل تعبير عن الفراغ السنّيّ البلبلة التي افتعلها في صيدا من يدّعون الحرص على الدين والأخلاق والحشمة، فيما حقيقة الأمر أنّهم يخدمون المنادين، من جماعة الحزب أو “التيّار العوني”، بأنّ كلّ سنّيّ لبنانيّ “داعشيّ” في العمق!

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…