انتقام القدر.. بين الهند وبريطانيا

مدة القراءة 6 د

في عام 1684 كانت إنكلترا وتركيا العثمانية تتصارعان في مياه البحر المتوسط. كانت المعارك بينهما تشهد عمليات كرّ وفرّ بين أسطولَيْ الدولتين. في ذلك الوقت كانت تركيا العثمانية تحتلّ مواقع عديدة من الجنوب الأوروبي (مالطة) حتى شرق ووسط أوروبا. حمل العثمانيون معهم البنّ إلى الدول التي احتلّوها. وعرّفوها على القهوة. وصل هذا التقليد إلى إنكلترا. يومها أصدر رئيس أساقفة كانتربري (لاند) فتوى دينية بتحريم شرب القهوة بحجّة أنّ من يشربها يصاب بالهلوسة ويعتنق الإسلام. وعلى أساس فتوى التحريم تلك، أصدر مجلس العموم البريطاني قانوناً يمنع استيراد البنّ إلى البلاد وتجريم كلّ من يحتسي القهوة.

لم يتغيّر هذا الواقع إلا بعدما جرؤت إسبانيا، معتمدة على أسطولها البحري، وحاولت أن تلوي ذراع إنكلترا في عهد الملكة إليزابيت الأولى. يومها تحوّل العداء العثماني – الإنكليزي إلى تعاون، واستعانت إنكلترا بالعثمانيين المسلمين ضدّ الإسبان (المسيحيين) ورُفع الحظر عن البنّ والقهوة.

الآن يتولّى رئاسة بلدية لندن مسلم من أصول باكستانية. ويتولّى رئاسة حكومة اسكتلندة مسلم آخر من أصول باكستانية أيضاً. فيما يتولّى رئاسة حكومة المملكة المتحدة ابن مهاجر من أصول هندية.

في عام 1684 كانت إنكلترا وتركيا العثمانية تتصارعان في مياه البحر المتوسط. كانت المعارك بينهما تشهد عمليات كرّ وفرّ بين أسطولَيْ الدولتين

من الهند إلى فلسطين: وحدة “المملكة”

في عام 1948 خرجت بريطانيا من فلسطين لتترك خلفها أكثر من مليون مهاجر فلسطيني لجأوا إلى لبنان وسوريا والأردن، إضافة إلى دولة يهودية على نصف الأراضي الفلسطينية.

قبل ذلك بعام (1947) خرجت بريطانيا من الهند لتترك وراءها حرباً أهليّة أودت بحياة مليون ضحيّة، وأدّت إلى تقسيم الدولة إلى دولتين: الهند وباكستان.

في ذلك الوقت كانت بريطانيا دولة واحدة موحّدة تضمّ إنكلترا واسكتلندة وإيرلندة وويلز. اليوم يرأس الحكومة البريطانية ريتشي سوناك، وهو ابن مهاجر من الهند. ويرأس الحكومة الاسكتلندية ابن مهاجر من الباكستان هو حمزة يوسف.

تتوقّف وحدة المملكة المتحدة اليوم على قرار يتّخذه الرجلان، أو أحدهما على الأقلّ.

الرئيس الاسكتلندي يتزعّم حزباً يطالب بالانفصال عن المملكة المتحدة. غير أنّ الانفصال يتقرّر باستفتاء شعبي يسبقه قرار تتّخذه الحكومة الاسكتلندية وتوافق عليه الحكومة المركزية في لندن يقضي بإجراء هذا الاستفتاء.

جرى ذلك قبل أقلّ من عقد من الزمن. وكانت المفاجأة أنّ النتيجة لم تؤيّد الانفصال، فاستمرّ الزواج الوطني على كره من الاسكتلنديين. هذه المرّة هناك ثقة بأنّ الاستفتاء على الانفصال يحظى بالأكثرية المطلقة. ولذلك تعارض الحكومة المركزية في لندن إجراءه. هذا يعني أنّ الصراع المصيري على وحدة المملكة المتحدة يدور بين رئيس في غلاسكو من أصل باكستاني يريد الانفصال، ورئيس في لندن من أصل هندي يعارضه. وهو يعني بالتالي أنّ وحدة المملكة المتحدة مدينة باستمرارها إلى توافق الرجلين على الوحدة، أو على فكّ الارتباط التاريخي بين الإنكليز والاسكتلنديين.

هكذا كما كان مصير وحدة الهند في يد “شركة الهند الشرقية” التي كانت تضمّ مستثمرين من اسكتلندة وإنكلترا وإيرلندة وويلز، فإنّ مصير الوحدة البريطانية أو عدمها هو اليوم بين يدي شخصين من أصول هندية وباكستانية.

الآن يتولّى رئاسة بلدية لندن مسلم من أصول باكستانية. ويتولّى رئاسة حكومة اسكتلندة مسلم آخر من أصول باكستانية أيضاً. فيما يتولّى رئاسة حكومة المملكة المتحدة ابن مهاجر من أصول هندية

مسلمون.. إنفصاليون

يعزّز الموقف الانفصالي الذي تبنّاه ويدافع عنه حمزة يوسف أنّ الحزب الذي يتزعّمه يتمثّل في البرلمان المحلّي الاسكتلندي بأربعة وخمسين مقعداً، علماً بأنّ العدد الكلّي لمقاعد المجلس هو 59 مقعداً. وهذا يعني أنّه يتمتّع بتأييد الأكثرية المطلقة. صحيح أنّ الاستفتاء حول الانفصال يجب أن يجري على نطاق شعبي لا برلماني، إلا أنّ الصحيح أيضاً هو أنّ فوز الحزب بالأكثرية المطلقة كان على أساس الشعار الذي رفعه بالانفصال عن المملكة المتحدة.

كانت نيكولا ستيرجون تتزعّم الحزب الاسكتلندي الوطني الذي يطالب بالانفصال. وكانت قد انضمّت إلى الحزب وهي في سنّ السادسة عشرة. أمّا الآن وقد بلغت سنّ الثانية والخمسين، فقد قرّرت اعتزال العمل العامّ، الأمر الذي مهّد الطريق أمام ابن المهاجر الباكستاني لملء مقعدها في رئاسة الحكومة المحلّية بتأييد ودعم منها.

جرى الاستفتاء الماضي على الانفصال عندما كانت ستيرجون زعيمة للحزب. إلا أنّ النتائج جاءت مخيّبة للآمال. لكن بعدما بدأت المملكة المتحدة تدفع ثمن انفصالها عن الاتحاد الأوروبي، ارتفعت نسبة مؤيّدي الانفصال، على أمل أن تكون الخطوة التالية لاسكتلندة بعد الانفصال هي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

تعميم تجربة الانفصال

إذا نجحت اسكتلندة في ذلك، ومن المرجّح أن تنجح هذه المرّة، فإنّها قد تشجّع مناطق عديدة أخرى في دول أوروبية على الاقتداء بها تحقيقاً لشعار: “الانفصال عن الأصغر (الدولة) للانضمام إلى الأكبر (الاتحاد)”.

يشهد التاريخ على سلسلة من الحروب الدامية بين الشمال الاسكتلندي والجنوب الإنكليزي، وكذلك بين إنكلترا وإيرلندا (التي انقسمت إلى شمال تابع للمملكة المتحدة وجنوب أصبح دولة كاثوليكية مستقلّة).

خلافاً لإيرلندة حافظت اسكتلندة على وحدتها تحت التاج الإنكليزي. وهي تحرص اليوم على هذه الوحدة لكن خارج التاج الإنكليزي.

بعد إعلانه ملكاً، تعمّد الملك تشارلز زيارة العاصمة الاسكتلندية. لكنّ هذه المبادرة الودّية يبدو أنّها ما كانت كافية لحثّ الاسكتلنديين على التخلّي عن فكرة الانفصال. فالدراسات الإحصائية اليوم تؤكّد أنّه إذا جرى استفتاء في وقت قريب، فإنّ الأكثرية سوف تقول “نعم” للانفصال.

تعزّز من مشاعر هذا التحوّل النتائج الاجتماعية والاقتصادية السلبية التي تعانيها المملكة المتحدة بكلّ مكوّناتها نتيجة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي. وهو الانفصال الذي صوّتت الأكثرية المطلقة من الاسكتلنديين ضدّه.

إقرأ أيضاً: تشارلز ملكاً وديانا “ملكة” القلوب

التغييرات التاريخية لإنلكترا

مرّت إنكلترا في سلسلة من المتغيّرات:

– أوّلاً مع الإمبراطورية العثمانية من التحارب إلى التحالف، ومن تحريم القهوة إلى شرعنتها.

– ثانياً مع القارّة الهندية من الاحتلال إلى التقسيم، ومن التقسيم إلى تحويل اللاجئين منها إلى رؤساء حكومات في كلّ من لندن وغلاسكو.

تقف المملكة المتحدة اليوم بكلّ مكوّناتها السياسية (إنكلترا، اسكتلندة، ويلز، وإيرلندة) أمام أهمّ متغيّر على الإطلاق يتناول العلاقة بين إنكلترا واسكتلندة ويتوقّف على قرار يتّخذه ابنا لاجئَيْن من الهند وباكستان (حمزة يوسف وريتشي سوناك).

للمناسبة: يذكر رئيس الحكومة السابق بوريس جونسون أنّ جدّه الأكبر يتحدّر من أصول تركيّة!!

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…