بِركة سمير قصير: المَيّ فراق!

مدة القراءة 4 د

لهو أطفال في بِركة ماءٍ وسط بيروت أطلق العنان لموجة رأي ورأي مضادّ و”نقار افتراضي” وصلت إلى حدود إشعال فتنة على “المِغراد” و”كتاب الوجه” وسائر مواقع التواصل الاجتماعي.

هكذا هم الأطفال، سوريّين وغير سوريّين، مفطورون على حبّ الماء، والبحث عنها في كلّ مكان. لا يُعرف ما هو سبب ذلك. ربّما لأنّهم غير ناضجين، أو هم يحملون في جيناتهم التي ورثوها عن أسلافهم غريزة البحث عن الماء مثل سائر الكائنات البرّية للاستمرار في الحياة والتخفيف عن أنفسهم من رَمَض الشمس في البراري.

الماء شرباً و”تطبيشاً” هو مصدر للبهجة والفرح، بل عنوان للتعبير عن السعادة والترفيه عن النفس.

في صغري، يوم كان أهلي يصطافون كسائر العائلات البيروتية في الجبل (رزق الله)، كنت أبحث مع أترابي عن بُرك الماء في الحقول وبين أشجار الصنوبر بدافع السباحة واللهو. أذكر بركة أبي أنطون الذي كان ينصب لنا كميناً حتى “يزغطنا” حينما نقترب من بركته الطبيعية المخصّصة لريّ المحاصيل.

أمّ الياس كانت تصطحبني معها إلى “الجنينة” (مصغّر جنّة) لأساعدها في ريّ أثلام البندورة الجبلية والفاصوليا “عائشة غانم”، فأقوم بالعمل بجهد حتى تكافئني بسماحها لي بأن أسبح ببركة الريّ مع الضفادع.

أقرّت البلدية أو غير البلدية أنّها غير قادرة على زرع حارسٍ قرب الحديقة أو البركة لمنع اللهو أو العبث بها… وهو بالمناسبة ما اعتادته بلدية بيروت منذ سنوات، وتحديداً منذ وصول المجلس الحالي، الذي لم يترك بَرَكَة (أو بِركة لا فرق) إلّا وبدّدها

مع انتهاء العام الدراسي، يلجأ الطلاب أيضاً إلى اللهو بالماء ورشّ بعضهم بعضاً به للتعبير عن الفرح بانتهاء الموسم الدراسي. حتى أنصار تيار المستقبل حينما أرادوا التعبير عن فرحهم بمقاطعة الانتخابات عادوا إلى تلك النزعة الطفولية، فنفخوا بِركة بلاستيكية وملأوها ماءً وسبحوا فيها.

هذا عن الماء. أمّا البِركة فهي اصطلاحاً مشتقّة من فعل بَرَكَ، الذي يعني مكث بمكان وزاد وتكاثر، ومن هنا جاء مصطلح “بَرَكَة” و”بركات” و”مُبارك” (عيدكم مبارك بالمناسبة).

أمّا في التراث الشعبي البيروتي فيُقال إنّ “المَيّ فراق”، وذلك حينما يعمد الناس إلى رشّ بعضهم بعضاً بـ”إكسير الحياة” بدافع اللعب واللهو، وهو ما حصل على ما يبدو في بِركة سمير قصير.

لجأ الأطفال إلى بركة سمير قصير في وسط بيروت. غطسوا فيها وفرحوا، واتّفق أن صوّرهم من كان شاهداً على تلك الواقعة. ثمّ بقدرة قادر عليم، وصل الفيديو إلى أحد المواقع الإخبارية، فنشره مرفِقاً إيّاه بتساؤل عن غياب البلدية ودورها في حماية المساحات العامّة، خصوصاً تلك البركة التي تبعد “مرمى حجر” عن مبنى البلدية.

اعتُبر تساؤل الموقع ضرباً من ضروب العنصرية و”الكزينوفوبيا” (كره الغريب)، وأُخذ الموضوع إلى مكان آخر مختلف. ربّما هو كذلك، فلو كان الأطفال الذين يلهون في البركة من الجنسية الألمانية أو الفرنسية، لكان Caption الفيديو مختلفاً تماماً بلا شكّ.

ولأنّ الأطفال من التبعية السورية، فقد أثار وجودهم في البِركة العديد من التراكمات التي راحت تطفو على سطح تلك البِركة. وهي تراكمات وانطباعات غطست مع الأطفال، وكانت قد زُرعت على مدى سنوات الأزمة السورية في نفوس عدد كبير من اللبنانيين (عن حقّ أو تحامل لا فرق)، ومفادها أنّ اللاجئين عموماً يحصلون على المساعدات، ويشاركون اللبنانيين في سوق العمل، وفي شحّ الكهرباء وندرة المياه وتراجع الخدمات والعطش إلى النت، إضافة إلى تراجع هيبة الدولة وعجزها عن فرض الانتظام العامّ، حتى لو كان ذاك العجز عبارة عن “حِراسة بِركة” في وسط بيروت… وهذا لبّ الموضوع.

نفور البعض من المشهد وشى بأنّ النافرين حاولوا التعبير عن ذلك من خلال قول ما لم يقولوه بالفعل، ومفاده أيضاً أنّ اللاجئين باتوا عبئاً أكبر من أن يتحمّله اللبنانيون أو تتحمّله الدولة اللبنانية، وأنّ مسألة عودتهم باتت أمراً ضرورياً.

إقرأ أيضاً: “سخسخت” أمّ زهير بصاروخ!

ما زاد في الأمر تعقيداً، ولم يتنبّه له كثيرون، هو ردّ فعل البلدية (أو ربّما القائمين على بركة سمير قصير): أفرغوا البركة من الماء، فأثبتوا عجزهم بالفعل، وأكّدوا الاعتقاد السائد لدى اللبنانيين عموماً، والبيروتيين خصوصاً، أنّ الدولة عاجزة، وأجهزتها عاجزة، بل تخلّت عن أبسط مسؤوليّاتها حتى لو كانت حراسة بِركة من ضمن المساحات العامة.

أقرّت البلدية أو غير البلدية أنّها غير قادرة على زرع حارسٍ قرب الحديقة أو البركة لمنع اللهو أو العبث بها… وهو بالمناسبة ما اعتادته بلدية بيروت منذ سنوات، وتحديداً منذ وصول المجلس الحالي، الذي لم يترك بَرَكَة (أو بِركة لا فرق) إلّا وبدّدها… فكان إفراغها، لمن يعتبرون، إشارة أشدّ وقعاً ومرارةً من تلك “العنصرية المفترضة”، التي لم تأتِ من عبث!

لمتابعة الكاتب على تويتر: abo_zouheir@

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…