يروي العميد المتقاعد جمال المواس المرافق الخاصّ للرئيس الشهيد رشيد كرامي: “أبلغت “الأفندي” بضرورة عدم انطلاق الطائرة التي تقلّه أسبوعياً من طرابلس إلى بيروت من قاعدة أدما، بل يمكن انطلاق الطائرة من قاعدة عسكرية في بيروت، وهذا أضمن. لكنّ الرئيس الشهيد رفض ما أبلغته به قائلاً: “هل تشكّون في الجيش اللبناني..؟ فأنا لا أقبل هذا الكلام”.
كان رشيد كرامي مثالاً لساسة السُّنّة في لبنان، إذ كان معتدلاً دون تراخٍ، مقاتلاً دون بندقية، مشاكساً دون أذيّة، ومؤمناً بالبلد ومؤسّساته وقوانينها.
هو يشبه رياض الصلح ورفيق الحريري من حيث شكل النهايات. الثلاثة تمّ اغتيالهم وهم رؤساء للحكومة، والثلاثة تمّ تحذيرهم قبل اغتيالهم، والثلاثة أيضاً لم يعيروا التحذيرات اهتماماً مرجّحين كفّة الوثوق بالدولة ومؤسّساتها لحمايتهم.
رياض الصلح في 15 تموز 1951 تمّ تحذيره من أنّ جهات تسعى إلى اغتياله، ونُصِح بتأجيل زيارته للعاصمة الأردنية عمّان، فكان جوابه: “هل يجرؤون على فعل ذلك أثناء زيارة رسمية لدولة شقيقة..”. في اليوم التالي في 16 تموز خلال انتقاله بموكب رسميّ إلى مطار عمّان للعودة إلى بيروت، قام كلّ من محمد أمين صلاح الدين (أردني – فلسطيني) وميشال الديك (لبناني مقيم في درعا) وسبيرو وديع (أردني) بإطلاق النار على رياض بك ففارق الحياة على الفور. قام ثلاثتهم بالتخطيط للاغتيال، وينتسبون للحزب السوري القومي الاجتماعي، ثمّ قيل لاحقاً إنّهم أعضاء في فرقة المستعربين التابعة للموساد الإسرائيلي.
كما رياض أيضاً رفيق
قبل أشهر من 14 شباط 2005، تمّ تحذير رفيق الحريري من عدّة عواصم عربية وغربية، وأتته النصيحة من أقرب الزعماء الغربيين إليه بمغادرة لبنان في هذه المرحلة الحرجة. وكان جواب الرئيس الشهيد دائماً: “لن يجرؤوا على قتلي، هناك قانون ومجتمع دولي”.
غادر الرفيق مبنى مجلس النواب عند الساعة 12 ظهراً في عيد الحبّ والعشّاق مطمئنّاً لامبالياً بالتحذيرات معتقداً أنّ المنطق والقانون يوفّران له الحماية، وعند وصوله إلى فندق “السان جورج” انفجر به طن من المتفجّرات فسقط شهيداً من أجل لبنان.
رشيد لم يقبل وهم قبلوا
لم يقبل رشيد كرامي نصيحة مرافقيه التي تشكّك في مؤسّسات الدولة قائلاً: “أنا لا أقبل هذا الكلام”. إلا أنّ القتلة صمّموا على انتهاك الدولة ومؤسّساتها وسقف حمايتها فقتلوا الرشيد ما بين الأرض والسماء في 1 حزيران 1987 ليكون حلقة جديدة من حلقات اغتيال رؤساء الحكومة وقادة السُّنّة في لبنان.
من المؤكّد أنّ المخطّطين في الجرائم الثلاث عُرفت أسماؤهم والجهات التي تقف خلفهم، وهم جميعاً مسؤولون عن الجرائم التي ارتُكبت. لكن في السياق الفكري كان نمط تفكير ساسة السُّنّة في لبنان عاملاً أساساً في نجاح اغتيالهم.
وثق زعماء السُّنّة كما السُّنّة بالمؤسّسات والقوانين معتقدين أنّها قادرة على حمايتهم من العنف والقتل، تماماً كما فعل أهل بيروت عام 2008 فتمّ اجتياح مدينتهم واحتلالها في 7 أيار من قبل حزب الله وميليشياته.
بعد 37 سنة على اغتيال رشيد كرامي بواسطة عبوة زُرعت في طوّافة للجيش اللبناني، لم يتغيّر شيء، وسيبقى السُّنّة مؤمنين بالدولة ومؤسّساتها، وسيستقلّون مركبات هذه الدولة بكلّ أنواعها، الآلية منها وغير الآلية، لكن لا شيء يضمن سلامتهم…
إقرأ أيضاً: لا تضيّعوا الوقت.. ابحثوا عن رئيس للحكومة
هذا المسلسل من القتل والإلغاء الذي من المؤكّد أنّه لم ينتهِ بعد، وقد طال السُنّة والمسيحيين والدروز. لم يقتصر على الاغتيال الجسدي بل مارس النفيّ والإبعاد مع رئيسي حكومة آخرين صائب سلام وتقي الدين الصلح. الأوّل عاد ليقضي آخر أيامه في منزله في المصيطبة، والثاني وافته المنيّة في منفاه الباريسي.
ذكرى اغتيال رشيد كرامي أخرجت من ذاكرتنا كّل هذه الأسماء وجوهر حقيقة الواقع. واقعٌ ينزف رجالاً وزعامات.
لمتابعة الكاتب على تويتر: ziaditani23@