أوهام البديل عن IMF: إنعاش خليجيّ لدولة الحزب

مدة القراءة 6 د


في المنطقة العربية بلَدان اثنان يعطّلان اتفاقهما مع صندوق النقد الدولي (IMF)، لكن لسببين مختلفين:

– تونس ترفض لأسباب معلنة تتعلّق بالشروط التي يطلبها الصندوق.

– أمّا في لبنان فالرفض مضمرُ الأسباب، ويكاد يكون صادراً عن ضمير مستتر تقديره “هم”.

الوزير السابق وهّاب من القلّة التي تصرّح بأسباب الرفض في الإطار السياسي الواقعي. يقول إنّ موظّفي الصندوق لا يفهمون “كيف راكب البلد”، ومن ذلك أنّهم لا يفهمون أنّ اللبناني يذهب إلى السياسي ليتدبّر أمر تكاليف العلاج الصحّي.

تتمّة العبارة أنّ السياسي “كان” يعالج المواطن من مال الدولة، وبالتالي فإنّ من يرفض الاتفاق مع الصندوق إنّما يرفض الانحلال النهائي لمنظومة الماليّة العامّة التي يتولّى السياسي دور الموزّع الحصريّ فيها.

هناك رهان، أو ربّما وهمٌ، يصرّح به بعض السياسيين، على إعادة بناء منظومة التمويل على الأسس التي بُنيت عليها منظومة التسعينيات: تسوية إقليمية تأتي ببضعة مليارات من الخليج، إمّا إلى الدولة وإمّا إلى الأحزاب

النقاش مع صندوق النقد حول منظومة الدعم الحكومي للسلع والخدمات حالة كلاسيكية لا تكاد تشذّ عنها أيّة دولة دخلها الصندوق من قبل. فالدعم الحكومي يرتبط بالاستقرار الاجتماعي وبالاستقرار السياسي وبمنظومات الفساد التي تقتات منه. لكنّ المسألة في لبنان باتت مختلفة تماماً، فالأمر لا يتعلّق بإدخال تعديلات على نظام قائم لتمويل الخزينة العامّة، بل بإعادة بناء منظومة تمويل الخزينة بعد انهيارها بالكامل.

مصادر التمويل السياسيّ

كان هناك نظام سياسي نشأ في ظلّ حكم الوصاية السورية، واستمرّ بعده، وكانت له منظومة تمويل تعمل بآليّات محدّدة، من الداخل والخارج. انهارت منظومة التمويل وبقي النظام، كما شهدت بذلك انتخابات العام الماضي. والمضمون الحقيقي للبحث اليوم هو كيفيّة إعادة بناء منظومة التمويل من دون المسّ بالنظام الذي يعتاش منها.

ظلّت منظومة التمويل الدولية منذ ثلاثين عاماً تستند إلى ثلاثة مصادر:

1- التمويل التجاري: وأساسه الجوهري الودائع في القطاع المصرفي، التي تحوّلت إلى دين عامّ، إمّا عبر سندات خزينة و”يوروبوندز” اكتتبت فيها البنوك مباشرة، وإمّا عبر مصرف لبنان الذي استحوذ على أكثر من نصف تلك الودائع على شكل شهادات إيداع، وأقرضها للدولة أو أنفقها على دعم الليرة. وهناك شقّ آخر من الأموال الخاصة يتمثّل باستثمارات المؤسّسات المالية الدولية في أدوات الدين اللبنانية. إذاً هذا الشقّ “تجاري”، بمعنى أنّه يخضع لشروط السوق من حيث تكلفة التمويل ومعدّلات الفائدة، وقد كان هو الأساس، بدليل أنّ الدولة انهارت بانهياره.

2- تمويل الحكومات: والمقصود به الدعم المباشر من دول الخليج في فترات معيّنة، عبر ودائع في مصرف لبنان أو هبات أو قروض ميسّرة من صناديق التنمية العربية. كانت لهذا النوع من التمويل محطات أساسية فارقة، منها “باريس 2″ و”باريس 3” والمساعدات بعد حرب تموز 2006. وهو على أيّ حال لم ينقطع كليّاً حتى اليوم.

3- التمويل من المؤسّسات الدولية المتعدّدة الأطراف: مثل البنك الدولي والمنظّمات الدولية ووكالات التنمية الأميركية والأوروبية. وربّما هو الشريان الوحيد الباقي بفاعليّة في ظلّ الأزمة الراهنة.

التمسّك بالوهم يقود أركان النظام إلى شراء الوقت بما بقي من احتياطيات مصرف لبنان، وطبع المزيد من الليرات لزيادة الرواتب. ذاك تمويل وهميّ لن يحمي المنظومة، ولن يضمن الاستقرار

تلك هي مصادر تمويل الخزينة التي تهيمن عليها منظومة الأحزاب الحاكمة. ويُضاف من خارجها ذلك التمويل الذي يأتي إلى الأحزاب مباشرة، من دون المرور في القنوات الرسمية، وأكبره وأكثره وضوحاً وتنظيماً التمويل الإيراني للحزب.

السؤال اللبناني الأساسيّ اليوم: من أين سيأتي التمويل للنظام السياسي في مرحلة ما بعد الأزمة وبأيّ شروط؟ ما يُقال صراحة أو مواربة أنّ الثلاثة مليارات دولار التي سيقدّمها صندوق النقد الدولي لا تستأهل “فرط” منظومة الحكم وآليّات تمويله لأجلها.

هناك رهان، أو ربّما وهمٌ، يصرّح به بعض السياسيين، على إعادة بناء منظومة التمويل على الأسس التي بُنيت عليها منظومة التسعينيات: تسوية إقليمية تأتي ببضعة مليارات من الخليج، إمّا إلى الدولة وإمّا إلى الأحزاب.

يمكن العودة حتى إلى ما كانت تكتبه الصحف التي تدور في فلك الحزب منذ اللحظة الأولى لانطلاقة الحوار بين السعودية وإيران. كلّ تحليلاتها كانت تقوم على فكرة تسوية جوهرها أن “تأخذ” السعودية في اليمن و”تعطي” في لبنان. والترجمة العملية لما تعطيه هو أن تضخّ الأموال لإحياء الدولة التي يسيطر عليها الحزب.

“تسليم السلاح”… مقابل “الفساد”

قامت منظومة تمويل التسعينيات على فكرة جوهرها تعويض الميليشيات عن نزع السلاح بمكاسب في الدولة، تبدأ بالتوظيف وتمتدّ إلى تحاصص التلزيمات والمناقصات، ولا تنتهي بالولاية على الخدمات العامّة. ولم يكن الحزب خارج تلك المنظومة لتعفّف منه، بل لأنّه احتفظ بسلاحه. لربّما هناك من يتوهّم أنّ بإمكان الحزب أن يقبض ثمن الخروج من الساحات الخارجية، لا سيّما اليمن، من خلال تمويل الدولة التي يهيمن عليها.

دون هذا الوهم عوائق عدّة، أهمّها أنّ التمويل الذي يأتي من المساعدات والتسويات لا يمكن بأيّ حال أن يكون كافياً من دون إعادة بناء منظومة التمويل “التجاري”، أي من دون عودة الدولة إلى أسواق رأس المال بشروط السوق.

لا يستطيع النظام السياسي أن ينسى أنّ حساب منظومة تمويله المنهارة لم يُقفَل بعد. ثمّة 60 مليار دولار من الديون العامّة بالليرة ذابت قيمتها بنسبة 99%، وثمّة 33 مليار دولار من الديون بالعملة الأجنبية منعدمة القيمة في أسواق رأس المال، وثمّة 96 مليار دولار من الودائع العالقة في البنوك، وأصحاب تلك الأموال كانوا هم من يموّل الدولة، ولا بدّ من التساؤل عمّا إذا كان بالإمكان إنشاء منظومة تمويل “تجاري” من دونهم. ومن البديهيّ أنّه لا يمكن المضيّ في فتح حساب جديد من دون إقفال القديم، وهذا غير ممكن من دون اتفاق مع صندوق النقد وتسوية مع الدائنين.

إقرأ أيضاً: الترسيم البرّيّ: هل حان وقت التنازل السوري؟

إضافة إلى ما سبق، هناك شيء ما تغيّر، ليس فقط في النظرة إلى لبنان ودوره والاهتمام به، بل في أسلوب الإدارة السعودية للمساعدات الخارجية. ويمكن العودة إلى التصريح الشهير لوزير المالية السعودي محمد الجدعان في مؤتمر دافوس الأخير، حين أكّد أنّ زمن تقديم المساعدات بلا إصلاحات انتهى. وهناك مثالان على الأقلّ لدولتين عربيّتين ربطت السعودية تقديم المساعدات لهما بتوصّلهما إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، للتأكّد من جدّية مسار الإصلاحات.

التمسّك بالوهم يقود أركان النظام إلى شراء الوقت بما بقي من احتياطيات مصرف لبنان، وطبع المزيد من الليرات لزيادة الرواتب. ذاك تمويل وهميّ لن يحمي المنظومة، ولن يضمن الاستقرار.

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…