وعد مارك سافانا بأنّه سيعيد العراق إلى أجمل عصوره. يقول الممثّل الشخصيّ للرئيس الأميركي دونالد ترامب في العراق كلاماً كبيراً. ذلك كلام لم يقُله أحد قبل مارك سافانا، لا زعماء الميليشيات ولا قادة الأحزاب ولا ضبّاط الارتباط الإيرانيّون وعلى رأسهم قاسم سليماني الذي أمر الرئيس ترامب بنفسه بقتله نهاية عام 2020. إلّا أنّ الحقيقة المرّة هي أنّ ترامب لم يوفد سياسيّاً ليمثّله في بلاد الرافدين، وإنّما أوفد جابي ضرائب ليجمع الأموال مقابل توفير الحماية السياسيّة للنظام.
سافانا عراقيّ الأصل على الرغم من أنّ اسمه الأوّل هو مارك. هل ذلك يكفي للقول إنّه يعرف العراق المعقّد الذي وُلد فيه؟ طبعاً لا.
عاش سافانا في ولاية ميتشيغن، مثله مثل الكثير من العراقيّين الذين توافدوا على الولايات المتّحدة مهاجرين ولاجئين. لم ينَل قسطاً من التعليم بقدر ما اهتمّ بالأعمال اليدويّة، إلى أن جاءت فرصته في المتاجرة بالحشيشة حين سمحت الولاية بتناول الماريغوانا. هو تاجر حشيش لامع إذاً.
أمّا حظوته لدى ترامب فترجع إلى تسلّله إلى فريق الحملة الانتخابيّة وتبرّعه لها بما ضمن له موقعاً في قلب تاجر العقارات، الذي سيتذكّره في ولايته الثانية ليعيّنه وكيلاً له في جني الأموال من دولة قال عنها أمام رئيس حكومتها إنّها تملك الكثير من الأموال من غير أن تملك عقلاً يعتني بتصريف شؤونها.
سافانا الذي لم يُعرف عنه أيّ اهتمام بالسياسة وسط الجالية العراقيّة في ميتشيغن حتّى صار سفيراً فوق العادة، لا يُتوقّع منه سوى أن يكون ساعي بريد من نوع خاصّ. كلّفه الرئيس ترامب بالجباية. هو أشبه بالصبيّ الذي كلّفه معلّمه أن يجمع الإيجارات بطريقة منضبطة. تلك ملهاة أميركيّة أخرى، لكنّها في الوقت نفسه تشكّل مأساة عراقيّة مضافة.
ما قاله ترامب بسخرية حين وصف العراق بأنّه دولة تملك أموالاً كثيرة، انطوى على رغبة معلنة في الابتزاز
العراق عقار مستأجَر
يعرف ترامب كيف يحصل على الأموال. رئيس أعظم دولة في العالم هو تاجر عقارات. لا يشعر بالإساءة لو أنّه نظر إلى العراق باعتباره عقاراً مستأجَراً. واقعيّاً هل يمكن النظر إلى العراق باعتباره عقاراً استأجرته إيران من الولايات المتّحدة؟
ذلك ما يُكسب مهمّة سافانا أهميّة استثنائيّة. ما من خطأ يمكن تداركه إذاً. تفكّر الإدارة الأميركيّة بشكل سليم بما يتناسب مع مصالحها وبما يضع الطبقة السياسيّة الحاكمة في العراق أمام استحقاقات الواقع: عليكم أن تدفعوا ما ترتّب عليكم من مستحقّات متأخّرة.

لن يفرش سافانا على منضدته خرائط مسار سياسي لا يهمّه في شيء. وهو في ذلك لن يُقلق قادة الأحزاب ولا زعماء الميليشيات، غير أنّه سيطلب جرداً في الأرباح التي ستكون للولايات المتّحدة حصّة الأسد فيها، ذلك لأنّها صنعت العراق الجديد الذي كان سبباً في استيلاء إيران وأتباعها على ثروات العراق. يطالب ترامب بمستحقّاته بأثر رجعيّ.
الدّيون الّتي لن يتأخّر دفعها
ما قاله ترامب بسخرية حين وصف العراق بأنّه دولة تملك أموالاً كثيرة، انطوى على رغبة معلنة في الابتزاز. الطبقة السياسيّة الحاكمة في بغداد لم يستفزّها ولم يُشعرها بالذعر سوى سيل الشائعات التي كانت تفيد بأنّ الولايات المتّحدة مقبلة على قلب الطاولة من خلال تغيير النظام السياسي.
هنا بالضبط وجد الرئيس ترامب الفرصة متاحة أمامه لاستعادة الأموال التي أنفقتها الولايات المتّحدة في احتلال العراق الذي أدّى إلى سقوط نظام صدّام حسين وتسليم الحكم لمعارضيه، الذين أثبتوا عبر أكثر من عشرين سنة أنّهم لا يملكون الإرادة ولا الرغبة في بناء دولة على أنقاض الدولة الوطنيّة، التي تمّ تأسيسها قبل ثمانين سنة من قدومهم بمعيّة دبّابات المحتلّ.
وعد مارك سافانا بأنّه سيعيد العراق إلى أجمل عصوره. يقول الممثّل الشخصيّ للرئيس الأميركي دونالد ترامب في العراق كلاماً كبيراً
لأنّ المسألة لا تحتاج إلى مفاوض سياسيّ لجأ ترامب إلى تاجر حشيش هو عراقيّ الأصل لإنجاز المهمّة التي حملت بين ثناياها رسالة تطمين إلى الطبقة السياسيّة التي تستعدّ لأربع سنوات جديدة من الحكم الفوضويّ المطلق.
ليس لدى سافانا الكثير من الكلام. لديه جرد بالمستحقّات الأميركيّة التي ترتّبت على العراق. رقم غير قابل للتفاوض. سيكون واضحاً أنّ شخصاً مثل ترامب، وهو الذي فشلت إيران في تمرير لعبة الوقت عليه، لن تنجح معه محاولات التسويف من أجل سرقة الوقت.
لا يحتاج جابي الضرائب سافانا إلى ترجمان لكي يكون كلامه واضحاً: مقابل بقائكم في السلطة عليكم أن تدفعوا.
نظام ضائع من غير حماية أميركيّة
حين ضُربت إيران إسرائيليّاً وأميركيّاً وضع زعماء الأحزاب والميليشيات أيديهم على قلوبهم. كانت الضربة الموجعة مقبلة. ذلك ما يفسّر غياب الكثير منهم عن المشهد الذي كانوا يتصدّرونه يوميّاً رافعين ألوية المقاومة ومهدّدين بتوجيه الضربات إلى القواعد الأميركيّة. تركوا الكلام الكبير للصغار الذين لم تضعهم الولايات المتّحدة على قائمة أعدائها المحتملين.
إقرأ أيضاً: العراق “دولة أزمة” تسير على الألغام
كانت التعليمات الإيرانيّة واضحة: اخفضوا الرؤوس حتّى تمرّ العاصفة. ذلك ما لم يكن خافياً على إدارة الرئيس الأميركيّ. لحظة ضعف ذهبيّة سيكون معها جني الأرباح مضاعفاً. ليس ذلك معناه أنّ سافانا الذي بدأ حياته العمليّة من الصفر سيبدأ مهمّته العراقيّة من الصفر. هناك أصفار كثيرة في حقيبة صديق ترامب العراقيّ غير أنّها الأصفار التي ستكشف عن الحقيقة التي تخفيها الطبقة السياسيّة المتبجّحة بولائها لإيران، الحقيقة التي تقول إنّ النظام السياسي القائم في العراق لن تقوم له قائمة إذا ما رفعت الولايات المتّحدة عنه الحماية السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والقانونيّة.
*كاتب عراقي
