العراق “دولة أزمة” تسير على الألغام

مدة القراءة 5 د

يعِد رئيس كلّ حكومة جديدة في العراق العراقيّين ببناء دولة على أنقاض الدولة الوطنية التي هدمها الاحتلال عام 2003. لكنّ شيئاً من ذلك لم يحدث عبر أكثر من عشرين سنة. لا أحد من أفراد الطبقة السياسيّة الحاكمة يرغب في قيام تلك الدولة. النظام الطائفيّ، وهو نظام استحدثه الأميركيّون في العراق، غير مؤهّل أصلاً لبناء دولة بقدر ما هو مستعدّ لإدارة شراكة عمليّة بين الأحزاب التي تحتكر تمثيل الطوائف، الهدف منها تقاسم الثروات.

 

بهذا المعنى يكون العراق أشبه بسفينة تحمل خزائن غاصّة بالمجوهرات سيطر عليها قراصنة. لم تتغيّر تلك الصورة منذ اللحظة التي قرّر فيها الحاكم المدنيّ الأميركيّ بول بريمر إنشاء مجلس الحكم، الذي هو صورة عن عراق متخيّل.

من وجهة نظر أميركيّة لا يستحقّ العراق سوى أن يكون دولة بائسة ورثّة ليس لها معنى. ما إلحاقها بإيران إلّا نوع من تأكيد تلك الرؤية واقعيّاً. العراق الإيرانيّ هو صناعة أميركيّة. كلّ ما يُقال عن تبعيّة شيعة العراق لإيران ليس حقيقيّاً. ما فعلته الحكومات المتتالية، ما عدا قلّة نادرة، كان يهدف إلى تطبيق التعليمات الأميركيّة التي تنصّ ضمنيّاً على أن يكون العراق إيرانيّاً.

المحاصصة الحزبيّة هي الأصل

على الرغم من أنّ الأحزاب الكبيرة عملت منذ عزوف القوّات المسلّحة العراقية عن الدفاع عن الموصل عام 2014 على تغيير الوجوه الثانويّة، وبالأخصّ في ما يتعلّق بممثّليها في مجلس النوّاب، فإنّ شيئاً من التغيير لم يطرأ على العمليّة السياسيّة، التي كانت ولا تزال وستبقى تواجه انسداداً في الأفق في ظلّ الغياب الكلّيّ لبرامج التنمية البشريّة. ذلك ما انعكس سلباً على قدرة الحكومة على تسويق سياسة إنمائيّة تستند إلى مبدأ الكفاءة حتّى لو كانت الكفاءات قادمة من الأحزاب نفسها.

حتّى لو أتت الانتخابات التشريعية المقبلة في العراق بوجوه جديدة فسيظلّ العراق دولة أزمة

لقد طفت المحسوبيّة والمنسوبيّة على السطح بشكل فاضح، حيث صار لأفراد عوائل زعماء الأحزاب والميليشيات الأفضليّة في اقتناص المناصب السياديّة داخل العراق وخارجه. لم يعد مفاجئاً ألّا يجيد سفير جمهوريّة العراق في هذه الدولة أو تلك أيّ لغة أجنبيّة، أو ألّا يضبط سلوكه بحيث لا يخرج على الأعراف الدبلوماسيّة الدوليّة. فضائح السفراء العراقيّين ليس لها حصر.

كلّ ذلك لا يشكّل إلّا مرآة مصغّرة لما يحدث في الداخل. هناك حيث يقع الوزراء الأمّيون تحت سلطة مستشاريهم الذين يديرون المكاتب الاقتصاديّة التابعة للأحزاب والميليشيات التي تتقاسم الوزارات.

العراق

لا يوقّع الوزير عقداً إلّا بعد أن يتمّ ضمان حصّة حزبه من الأموال المخصّصة لذلك العقد. لهذا يمكن القول إنّ الفساد في العراق لا يمكن معالجته إلّا من خلال اقتلاع النظام السياسيّ من جذوره. ذلك ما تعرفه الطبقة السياسيّة الحاكمة المسؤولة عن تطبيع الفساد، وهو ما يدفعها إلى استجداء الحماية الإيرانيّة خوفاً من انفجار الشارع الشيعيّ كما حدث نهاية عام 2019.

عداء تاريخيّ لا نهاية له

يوم الثالث من تشرين الأوّل احتفل العراق بيومه الوطنيّ. من جهتي أجهل السبب الذي كان وراء اتّخاذ ذلك التاريخ يوماً وطنيّاً. المفارقة أنّ أعلاماً إيرانيّة رُفعت في شوارع بغداد في تلك المناسبة. ما معنى ذلك؟

ليس هناك سوى تفسير واحد. فيما فشلت الطبقة السياسيّة في إقرار قانون الحشد الشعبي باعتباره دولة مجاورة، وجدت أنّ عليها أن تُكسب ولاءها لإيران طابعاً شعبيّاً، وهي تعرف أنّ ذلك لن يؤدّي إلى إزعاج الولايات المتّحدة وإسرائيل.

لكنّ الواقع يؤكّد أنّ إيران لم تساعد العراقيّين في بناء دولتهم الجديدة. بل إنّ العراقيّين لم يستفيدوا على الإطلاق من الخبرات العلميّة والاقتصاديّة الإيرانيّة. كانوا مستهلكين وحسب، وكان العراق عبارة عن سوق لتصريف البضائع الإيرانيّة.

يعِد رئيس كلّ حكومة جديدة في العراق العراقيّين ببناء دولة على أنقاض الدولة الوطنية التي هدمها الاحتلال عام 2003

إيران في حقيقتها لا تقدّم شيئاً لأتباعها سوى السلاح ولا تعلّمهم سوى فنون الفوضى. لأنّ العراق بلد ثريّ فقد أوحت لأتباعها فيه أن يمشوا قدماً في نهج الفساد من أجل أن يُحرم العراقيّون من رؤية ولادة دولتهم الجديدة. وفي ذلك ما يجسّد العداء الإيراني المغلق على مرويّاته التاريخيّة للعراق.

لا أمل في إنقاذ أميركيّ

حتّى لو أتت الانتخابات التشريعية المقبلة في العراق بوجوه جديدة فسيظلّ العراق دولة أزمة. ذلك لأنّ الانتخابات لن تخرج عن حدود المشروع الأميركي، الذي صار عبر الزمن مشروعاً إيرانيّاً لا يرى منظّروه في العراق سوى خطّ تماسّ ملغوم لا يمكن عبوره من غير تضحيات. العراق بلد ملغوم بأزماته الداخليّة، إضافة إلى أنّ الرعاية الأميركيّة التي لا تزال قائمة فيه تشكّل ضمانة مؤقّتة.

لا إيران ولا الولايات المتّحدة تفكّران بتدهور أحوال العراقيّين المعيشيّة. ما يهمّهما أن تظلّ تلك المساحة الجغرافيّة من غير معنى على مستوى ما يحدث في الشرق الأوسط. لا وجود للعراق في كلّ الحوارات التي تتعلّق بمستقبل الشرق الأوسط. أيشكّل ذلك اعترافاً أميركيّاً بتبعيّة العراق لإيران؟

إقرأ أيضاً: العراق: شبح البعث ولا بعثيين

في تلك الحالة ستحلّ دولة الفساد مشكلات العراقيّين من غير أن يأملوا الحصول على إنقاذ أميركيّ. لقد انتشرت أخيراً في الشارع العراقيّ شائعات عن قرب انقلاب عسكريّ بدعم أميركيّ. لم تكن تلك الشائعات إلّا من نتاج المختبر الإعلاميّ الإيرانيّ.

 

*كاتب عراقي

مواضيع ذات صلة

الشرع- ترامب: ماذا دار في “الاجتماع السّرّيّ”؟

استغرقت رحلة الرئيس السوريّ أحمد الشرع أحد عشر شهراً من إدلب إلى واشنطن. من يستمع إلى كلمات الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، منذ لقائهما الأوّل في…

لبنان يدور على ذاته… وسوريا في البيت الأبيض!

يُفترض أن يميّز الوضوح الخطاب السياسيّ اللبنانيّ في وقت تزداد الضغوط الأميركيّة، ذات الطابع الماليّ والاقتصاديّ، على البلد من جهة، والضغوط العسكريّة الإسرائيليّة من جهة…

نتنياهو يُعمّم الفوضى… ليستمرّ

منذ تشكيله ائتلافه اليمينيّ المتطرّف في كانون الأوّل 2022، يجد رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو نفسه أمام أزمات تتراكم ولا تنتهي، من فضائح فساد شخصيّة،…

فيدان في واشنطن: بداية مثلّث إقليميّ؟

لن يكون التصعيد التركيّ – الإسرائيليّ حدثاً طارئاً أو عمليّة كرٍّ وفرٍّ في مواجهتهما على أكثر من جبهة وحسب، بل حلقة جديدة في مسار صراع…