العراق: شبح البعث ولا بعثيين

مدة القراءة 4 د

بعد أكثر من عشرين سنة من قانون اجتثاث البعث عاد شبح البعث ليتصدّر المشهد السياسي في العراق.

 

بيانات وتصريحات تصدر من هنا وهناك يؤكّد أصحابها ضرورة منع البعثيّين من التسلّل إلى الدولة من بوّابة الانتخابات. وهو ما يجعل من “البعث” لافتة انتخابيّة ليس إلّا. أمّا الحديث المتشنّج عن الفلول، أي فلول البعث الذي تلحق به دائماً صفة المقبور، فإنّه حديث لترهيب البسطاء من الناس كما لو أنّ البعث كان عدوّاً للشعب العراقيّ.

بعيداً عن الجدل غير النافع في مسألة حقيقة وجود البعث تنظيماً سياسيّاً من عدمه فإنّ هناك جدلاً من نوع مختلف. ذلك لأنّه لو افترضنا أنّ النسبة العظمى للمقترعين هم ممّن ولدوا بعد انهيار حكم البعث أو كانوا دون العاشرة من عمرهم حين وقع الاحتلال، فإنّ ذلك يعني أنّ الذاهبين إلى الاقتراع لا يعرفون شيئاً عن البعث وسنوات حكمه. ثقافتهم السمعيّة هي مصدر معلوماتهم السلبيّة والإيجابيّة عن تلك الفترة المضطربة من تاريخ العراق.

المسافة بين مرحلتين

في تلك الثقافة كان الخلط المقصود كبيراً بين مرحلة حكَم فيها البعث وكان صدّام حسين واحداً من أهمّ زعمائه وبين الفترة التي حكَم فيها صدّام حسين العراق وكان الحزب واحداً من أضعف أدواته إلى درجة أنّ البعثيّين أنفسهم كانوا قد فقدوا ثقتهم باستمراريّة الحزب معتبرين أنّه انتهى في ظلّ طغيان الصنميّة وعبادة الفرد.

هناك فرق هائل بين المرحلتين. تميّزت المرحلة الأولى بالتنمية والتعليم المجّانيّ ومحو الأمّية والإنفاق على مشاريع البنية التحتيّة وتطوير قطاعات الصحّة والزراعة والصناعة. أمّا المرحلة الثانية فقد لوّثها غبار الحرب وأضاع العراق فيها ثروته وفقدَ أكثر من مليون من شبابه، والأهمّ أنّه صار فيها خاضعاً للإملاءات الدوليّة التي ظلمته وظلمت شعبه وصولاً إلى مرحلة الاحتلال التي لا يزال يرفل بنعيم أحزابها الطائفيّة التي لا يزال شبح البعث يقضّ مضجعها.

سيكون من الصعب المقارنة بين المرحلة التي حكم فيها حزب البعث العراق والمرحلة الحاليّة

يوماً ما كان العراق دولة ناجحة

وإذا ما عدنا إلى الثقافة السمعيّة فإنّها نوعان:

1- نوع يتذكّر فيه كبار السنّ قوّة الخير التي صنعت من العراق بلداً متقدّماً على جميع الأصعدة. شبابه متعلّم ويكاد أن يكون مكتفياً غذائيّاً، والمصانع فيه تعمل في أقصى طاقتها، وهو البلد العربيّ الوحيد الذي لا يعاني من مشكلة البطالة وكان يتطلّع إلى الخروج من مجموعة العالم الثالث.

العراق

2- صار محور الدعاية الإعلاميّة التي تبنّتها الأحزاب الحاكمة في مرحلة ما بعد الاحتلال، فيركّز على السنوات التي فقد فيها حزب البعث سيطرته على العراق وتفرّد صدّام حسين بالقرار السياسي. في تلك السنوات تمّ تهميش الحزب ولم يعُد لمنطلقاته النظريّة أو لتفاعله مع الشارع أيّ معنى.

سيكون من الصعب المقارنة بين المرحلة التي حكم فيها حزب البعث العراق والمرحلة الحاليّة. ذلك ما يُخيف أحزاب السلطة التي تتطلّع إلى استمرار نفوذها بعد الانتخابات المقبلة، وهو ما سيقع عمليّاً في ظلّ عدم وجود أيّة قوّة معارضة حقيقيّة لها.

بعد انقلاب 17 تمّوز 1968 نجح حزب البعث في بناء دولة حافظت على المؤسّسات التي ورثتها وطوّرت عملها ووضعتها في خدمة التنمية البشريّة والمادّية بعد تأميم النفط، وهو القرار الذي وقف وراءه صدّام حسين شخصيّاً. أمّا المرحلة الحاليّة التي لم تخرج حتّى اللحظة من عباءة الاحتلال فكانت، إضافة إلى ما شهدته من تدمير لمؤسّسات الدولة قام به المحتلّ، شاهداً على تطبيع الفساد الذي مارسه أتباع المحتلّ لكي تكون مؤسّسات العراق الجديد بمنزلة البقرة الحلوب التي احتكروا نتاجها لمصلحتهم.

 يوماً ما كان العراق دولة ناجحة واليوم هو دولة فاشلة بامتياز. وفي هذا يكمن سبب كراهية البعث

الخوف من الذاكرة

شخصيّاً أنا لا أحبّ البعث مثلما لا أحبّ أيّ تنظيم عقائدي مغلق على منتسبيه. غير أنّ البعثيّين لم يكونوا سيّئين إلّا إذا اتّخذنا من الاستثناءات الفرديّة نموذجاً. وفي كلّ الأحوال البعثيّون الحقيقيّون إمّا ماتوا أو يعانون اليوم من أمراض الشيخوخة ومتاعبها وليست لديهم رغبة ولا قدرة في استعادة حكم العراق.

إقرأ أيضاً: العراق: خيار بين أمرين الدولة أو الحشد

حزب البعث الذي مورست في حقّ أعضائه مختلف صنوف العنف والبطش والحرمان والعزل والقهر والتشريد لا يُخيف واقعيّاً، فهو بعد وفاة عزّت الدوري وكان زعيمه الأخير حسب علمي لم يعُد موجوداً. ما يُخيف فعلاً إنّما يكمن في الذاكرة العراقيّة التي تحفظ للحزب تاريخ مروره النظيف بالعراق. لا تكمن مشكلة الطبقة السياسيّة الذاهبة إلى الانتخابات في الخوف من عودة البعثيّين إلى الحكم بل في ذاكرة العراقيّين التي تستحضر محاسنهم.

 

*كاتب عراقي

مواضيع ذات صلة

الانتخابات العراقية: احتدام شيعي وصراع سنيّ على الزعامة

أنهت المكوّنات السياسية العراقية، بأحزابها وتحالفاتها كافة، حملاتها الانتخابية استعدادًا ليوم الحسم المقرر في الحادي عشر من الشهر الجاري. ومع دخول البلاد مرحلة الصمت الانتخابي،…

“الحزب” والدّولة: مساكنة مستحيلة؟

للسيادة مفهوم واحد متعارف عليه دوليّاً، في الأنظمة الديمقراطيّة والسلطويّة كما في الأنظمة الدينيّة والملحدة. في الاتّحاد الأوروبيّ مثلاً، للدول الأعضاء سيادتها ضمن وحدة الموقف…

زهران ممداني.. انتصار بطعم الـ”KFC”

علّق أحد الاصدقاء ساخراً على فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك: “انتظرنا أن يخرق الأميركيّون اللوائح الشيعيّة في الانتخابات النيابيّة، فاخترق الشيعة الأميركيّين في انتخابات…

بلفور بين وعدين

قبل أيام، مرّت الذكرى الثامنة بعد المئة لوعد بلفور، الصادر في الثاني من نوفمبر عام 1917، حين منحت بريطانيا اليهود في العالم وعدًا بإقامة وطن…