يساهم تقاطع أميركا وروسيا عند سوريا في رسم جزء من الخريطة السياسيّة في بلاد الشام. يشكّل دور تركيا الرئيس في سوريا عاملاً حاسماً في هذا التقاطع بسبب علاقتها الجيّدة بالدولتين العظميَين. وبينما يقطع الوجود الروسيّ في سوريا الطريق على محاولات إيران التأثير مجدّداً. هل يحدّ من التدخّلات والتوغّلات الإسرائيليّة؟ في المقابل هناك مخاوف من محدوديّة قدرة النظام الجديد على استيعاب التناقضات الداخليّة وحماية الوحدة الوطنيّة وعلاقات المكوّنات السوريّة.
مع الاستقبال الرفيع الذي حظي به الرئيس السوري أحمد الشرع من فلاديمير بوتين، فرض السؤال الآتي نفسه: كيف سيوفّق الشرع بين علاقته الجيّدة مع دونالد ترامب وانفتاحه على أوروبا، وبين انفتاحه على القيصر الروسيّ؟ هل تقبل واشنطن بتسليح موسكو الجيش السوريّ قيد الإنشاء وتدريبه وباحتفاظها بقواعدها العسكريّة في حميميم وطرطوس وبالتعاون الاقتصاديّ بين البلدين وبمشاركة الشركات الروسيّة في إعادة الإعمار؟
لا يلغي الاتّصال الهاتفيّ المطوّل أوّل من أمس الخميس بين بوتين وترامب استمرار الخلاف على وضع حدّ لحرب أوكرانيا بانتظار لقائهما المرتقب في بودابست بعد أسبوعين.
يشير العارفون من موسكو بخلفيّات زيارة الشرع إلى جملة عوامل رتّبت الزيارة:
الإلحاح التّركيّ على دمشق وموسكو
- الدور التركيّ الحاسم. أنقرة صاحبة الكلمة العليا في دمشق التي تتمتّع بعلاقات جيّدة مع الكرملين نصحت الشرع بالانفتاح على موسكو، ودعت الأخيرة إلى استعادة دورها على الساحة السوريّة. تركيا – رجب طيّب إردوغان التي لعبت الدور الرئيس في إسقاط “هيئة تحرير الشام” لنظام الأسد، يهمّها تدعيم النظام الجديد إزاء الصعوبات الكبرى التي يواجهها، سواء التدخّلات والشروط الإسرائيلية عليه، أم الانقسامات الداخليّة التي يمكن أن تستغلّها إيران، أم تباطؤ تعافيها الاقتصاديّ. تخوض تركيا صراعاً مكشوفاً على النفوذ في بلاد الشام مع إسرائيل، واستشعرت منذ مدّة الحاجة إلى موسكو، نظراً إلى علاقتها الجيّدة بإسرائيل، من جهة، وإلى مصالحها الحيويّة في بلاد الشام من خلال قاعدتَي حميميم العسكرية الجوّية وطرطوس البحريّة، من جهة ثانية.
لموسكو مصلحة في استعادة بعض العلاقة التاريخيّة مع سوريا بصفتها قاعدة رئيسة للدور الروسيّ في الشرق الأوسط. مع التغيير بسقوط الأسد تراجعت قدرة الكرملين على التأثير في سوريا، من دون أن تلتغي أسسه. سبق لأنقرة أن رتّبت زيارة وزير الخارجية السوريّ أسعد الشيباني آخر تمّوز الماضي لموسكو، التي مهّدت لجدول أعمال القمّة الروسيّة – السوريّة.
بعض الأوساط في سوريا تتساءل هل كان اعتماد قصر المهاجرين على العلاقة مع الكرملين كافياً لحماية استقرار بلاد الشام
التّلاقي الأميركيّ الرّوسيّ على وحدة سوريا
- قبل تأييد بوتين الواضح لدور ترامب في وقف حرب غزّة، يقول المتّصلون بموسكو إنّ الزعيمين تناولا الوضع في سوريا في اجتماعهما في 15 آب الماضي في ألاسكا على هامش الإخفاق في وقف حرب أوكرانيا. تفيد التقارير بأنّهما التقيا على حفظ وحدة سوريا، خلافاً لبنيامين نتنياهو الهادف إلى تقسيمها. تخشى موسكو من تأثير الفوضى الناجمة عن تفتيتها على أمنها. فهذا خيار ينشئ ساحة للتنظيمات السنّيّة الأصوليّة ولـ”داعش”، التي تتأثّر بها جمهوريّات الاتّحاد الروسيّ الإسلاميّة، وتهزّ الاستقرار من الشيشان إلى القوقاز والدول المحيطة بالدبّ الروسيّ.
أمّا تركيا فهي أكثر الدول المحيطة التي تخشى من تأثير التقسيم على المكوّنين الكرديّ والعلويّ. لذلك شملت محادثات الشرع – بوتين رفع أسماء قادة دمشق الجدد عن لوائح الإرهاب وفقاً لقانون روسيّ يعتبر “هيئة تحرير الشام” (النصرة سابقاً) تنظيماً إرهابيّاً ويشمل قيادات بعضهم في الحكم الآن وكيانات مطلوب إزالتها عن القائمة.
أمّا واشنطن، التي عبّر موفدها إلى دمشق توم بارّاك عن دعمه لوحدة بلاد الشام، فلا تريد للفوضى أن تتسبّب بصراعات تشغلها داخل سوريا وفي محيطها، وفي مقدَّمها حليفتها إسرائيل. التوجه الترامبيّ هو السعي إلى الاستقرار والازدهار الاقتصاديّ الإقليميّ.
روسيا وأميركا والتّدخّل الإسرائيليّ
- باستطاعة كلّ من موسكو وواشنطن التأثير على المكوّنات السوريّة، التي تحاول إسرائيل الإفادة من تعارضها مع النظام الجديد، لإحباط التيّارات التقسيميّة فيها. يضغط توم بارّاك على الجناح الكرديّ حليف واشنطن (قوّات سوريا الديموقراطيّة)، وفي المقابل لموسكو نفوذ على جناح آخر في “قسد”، والدولتان مع إدماج قوّات الأخيرة بالجيش السوريّ الجديد. ويسجّل المراقبون السوريّون عودة الوجود العسكريّ الروسيّ إلى منطقة القامشلي للحدّ من احتكاك الأكراد مع قوّات النظام الجديد.
في معطيات الأوساط أنّ المعضلات السوريّة مع المكوّنات الداخليّة وتحالف الشرع الوثيق مع تركيا يثيران شكوك دول عربيّة وأخرى أوروبية في قدرة النظام على تجاوزها
ولموسكو تأثير راجح على المكوّن العلويّ جرّاء العلاقة التحالفيّة السابقة مع التشكيلات العسكريّة العلويّة التي حاربت إلى جانب الجيش الروسيّ دفاعاً عن نظام الأسد. بعض من تصدّروا تمرّد آذار الماضي في الساحل السوريّ لجؤوا إلى قاعدة حميميم الروسيّة. وباستطاعة العسكر الروسيّ الحؤول دون تحريك الضبّاط الأسديّين الذين تستضيفهم موسكو مع الرئيس المخلوع للمسلّحين الموالين لهم في المناطق العلويّة.
بقدر جهود توم بارّاك في احتواء اشتباكات قوى النظام والمسلّحين الموالين له مع التشكيلات العسكريّة الدرزيّة في تمّوز الماضي وفكّ الحصار عن محافظة السويداء، كان للقوّات الروسيّة دور أساسيّ سابق في تهدئة توتّرات الدروز مع مناصري نظام الأسد وأجهزته بناء على طلب الزعيم الدرزيّ وليد جنبلاط.
ينسحب هذا الدور على الحدّ من التدخّلات الإسرائيليّة في الوسط الدرزيّ في الجنوب السوريّ، المرافقة للتوغّلات العسكريّة هناك. وهذا من أسباب طلب نظام الشرع عودة الدوريّات الروسيّة إلى محافظة القنيطرة على الحدود مع الجولان المحتلّ وعلى الخطوط التي رسمها اتّفاق 1974 لفكّ الاشتباك، للحدّ من الضغط العسكريّ الإسرائيلي على دمشق.
إقرأ أيضاً: الشّرع في موسكو: منع التّقسيم وأبعد…
شكوك داخليّة في نجاح مواجهة المعضلات
تعطي قراءة أوساط متّصلة بموسكو للانفتاح المتبادل بين بوتين والشرع بعداً إيجابيّاً لزيارة الأخير. لكنّ بعض الأوساط في سوريا تتساءل هل كان اعتماد قصر المهاجرين على العلاقة مع الكرملين كافياً لحماية استقرار بلاد الشام.
في معطيات هذه الأوساط أنّ المعضلات السوريّة مع المكوّنات الداخليّة وتحالف الشرع الوثيق مع تركيا يثيران شكوك دول عربيّة وأخرى أوروبية في قدرة النظام على تجاوزها. لهذا حديث لاحق، لأنّ العقوبات على سوريا لم تُرفَع بالقدر الذي يُروَّج له، بما فيها قانون قيصر المرتبط بشروط كثيرة. ولم تترجَم الوعود بالاستثمارات عمليّاً بفعل هذه الشكوك.
لمتابعة الكاتب على X:
