وضع النجاح السعوديّ الفرنسيّ في حشد تأييد دوليّ غير مسبوق للاعتراف بالدولة الفلسطينيّة إسرائيلَ وحكومتَها اليمينيّة أمام تحدّيات القبول بحلّ الدولتين أو مواجهة العزلة والمقاطعة على المستويات كافّة.
تقفز الأسئلة في إسرائيل إلى عمق العلاقات الأميركية الإسرائيلية في ظلّ التحوّلات الكبيرة في المزاج الشعبي الأميركي، لا سيما حيال استمرار الحرب في غزّة ومواقف نتنياهو التي تلحق الضرر بالمصالح الأميركية في المنطقة. وعليه تُطرح الأسئلة التالية: هل تكفي العلاقة مع الرئيس الأميركي لتبقى الولايات المتّحدة الأميركية الدعامة الرئيسة لمكانة إسرائيل العالميّة؟ وهل أصبحت إسرائيل مادّة خلاف بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي؟ وماذا عن موقف الكونغرس الحاليّ الذي ترتفع فيه الأصوات المناهضة لسياسة نتنياهو؟ وماذا عن استطلاعات الرأي التي تشير إلى تغيّر كبير في مزاج الشباب الأميركي الجمهوري والديمقراطي تجاه إسرائيل؟
في إسرائيل من يعتقد أنّها قادرة على أن تتدبّر أمرها بمعزل عن الولايات المتّحدة الأميركية، وهناك نخب تتمسّك بإرث بن غوريون الذي أوصى في نظريّته للأمن القوميّ الإسرائيلي بالاعتماد على قوّة عظمى لضمان مكانة إسرائيل. فهل هذه الأخيرة على عتبة القطع مع إرث بن غوريون والتضحية بالدعامة الأميركيّة؟
يبدو أنّ الاعتماد الإسرائيليّ على إجماع الحزبين يتّجه إلى أن يكون من الماضي، إذ تحوّلت إسرائيل إلى مادّة خلاف بين الجمهوريّين والديمقراطيّين وفقدت الإجماع الذي حظيت به لعقود
تسريع الانجراف السّياسيّ المناهض لإسرائيل
لم يعد التآكل في مكانة إسرائيل محصوراً في بلدان أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، بل يمتدّ أيضاً إلى الولايات المتّحدة الأميركية. وهذا ما حذّر منه عاموس يادلين وأودي أفينتال في مقالتهما على موقع القناة 12 العبرية بعنوان “أيلول الأسود.. والآن سقوط دبلوماسيّ لإسرائيل”، التي أشارا فيها إلى أخطار تراجع الدعامة الأميركية وتأثير ذلك على مكانة إسرائيل العالميّة، و”اعتبار الدعم الأميركي أمراً مسلَّماً به”.
لفت الكاتبان إلى تآكل مكانة إسرائيل في الولايات المتّحدة الأميركية من خلال النقاشات التي جرت في مؤتمر MEAD في واشنطن الشهر الجاري، الذي تناول العلاقات بين الولايات المتّحدة والشرق الأوسط، وشارك فيه مسؤولون رسميّون كبار إلى جانب خبراء وإعلاميّين من الولايات المتّحدة ومن دول المنطقة، بما في ذلك إسرائيل.
نقل الكاتبان عن أعمال المؤتمر أنّ الهجوم الإسرائيلي غير المسبوق على قطر، الذي وقع في اليوم الأوّل من المؤتمر، “تحوّل إلى حديث اليوم على حساب مواضيع أخرى، مثل إيران، التي أُزيحت عن جدول الأعمال. وبرز قاسم مشترك في المحادثات في المؤتمر مع جهات في الإدارة الأميركيّة والكونغرس ومن دول المنطقة، بما في ذلك أصدقاء بارزون لإسرائيل، تمثّل في الرسالة التالية: إسرائيل فقدت عقلها، واستراتيجيّتها غير واضحة، وأنتم تفقدون أصدقاءكم في كلّ مكان”.
في موضوع الهجوم على قطر كانت الرسالة واضحة: “لقد عبّر مسؤولون أميركيّون عن إحباطهم ممّا سمّوه الهجوم على شريكة للولايات المتّحدة وخرق سيادتها، وزعزعة الاستقرار في الخليج كلّه، وتسريع الانجراف السياسيّ المناهض لإسرائيل”. وبحسب قولهم، قد يشير هذا الحدث إلى منعطف أيضاً في موقف الإدارة في واشنطن إزاء إسرائيل، ويقوّي أصواتاً في محيط الرئيس ترامب تدعو إلى إنهاء الحرب في غزّة، حتّى لو فُرض ذلك فرضاً، قبل أن تمسّ مصالح أميركيّة عميقة.
لم يعد التآكل في مكانة إسرائيل محصوراً في بلدان أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، بل يمتدّ أيضاً إلى الولايات المتّحدة الأميركية
إسرائيل في نقطة حضيض غير مسبوقة
يدعم عاموس يادلين وأودي أفينتال في مقالتهما رؤيتهما لتراجع مكانة إسرائيل في أميركا بالتحوّلات التي أظهرتها نتائج استطلاعات الرأي في الأشهر الأخيرة. إذ أظهرت استطلاعات في الولايات المتّحدة (PEW، كوينيبياك، غالوب) تراجعاً غير مسبوق في مكانة إسرائيل. ففي الموضوع الفلسطينيّ، يتعاطف 37% مع الفلسطينيّين مقابل 36% مع إسرائيل، وهي أدنى نسبة منذ 2001. ويعتقد 50% أنّ إسرائيل ترتكب إبادة في غزّة مقابل 35% ينفون ذلك، ويعارض 60% تزويدها بالسلاح، بينما يؤيّده 32% فقط.
بعد حرب الـ 12 يوماً ضدّ إيران في حزيران، رأى 50% أنّ أميركا أقلّ أماناً، و42% أنّها أكثر أماناً، فيما يخشى 78% الانجرار إلى حرب مع إيران. ما يزال الدعم الجمهوريّ لإسرائيل أعلى نسبيّاً لكنّه يتصدّع: الآراء السلبيّة ارتفعت من 27% عام 2022 إلى 37.5%. الجمهوريون تحت سنّ الخمسين ينظرون إليها سلباً.
يؤكّد تحليل الفوارق العمريّة خطورة المستقبل، إذ ارتفعت النظرة السلبيّة لدى البالغين من 42% عام 2022 إلى 53%، ولدى الشباب الجمهوريّين من 35% إلى 50%، بينما قفزت بين الديمقراطيّين من 53% إلى 69%.
إقرأ أيضاً: اعترافٌ يقلب الموازين
الدعم لإسرائيل يتآكل بين جدران الكونغرس
يبدو أنّ الاعتماد الإسرائيليّ على إجماع الحزبين يتّجه إلى أن يكون من الماضي، إذ تحوّلت إسرائيل إلى مادّة خلاف بين الجمهوريّين والديمقراطيّين وفقدت الإجماع الذي حظيت به لعقود. وبعدما كان الكونغرس الأميركي المنصّة التي يلجأ إليها رؤساء الحكومات الإسرائيليون للتعويض عن خلافاتهم مع الرؤساء الأميركيّين، صار نتنياهو، الذي استغلّ هذه المنصّة سابقاً في خلافاته مع أوباما، يعتمد على ترامب وحده كي يضمن مصالح إسرائيل أو بالأحرى مصالحه.
من اللافت أنّ ترامب نفسه قد صرّح بأنّه “قبل 15 عاماً كانت إسرائيل تسيطر تماماً على الكونغرس، اليوم لم تعُد كذلك”. وختم الكاتبان مقالتهما بالقول: “هذا الدعم يشكّل شجرة ذات جذر واحد، وهو غير كافٍ. حتّى لو لم ينقلب ترامب على إسرائيل فسيأتي في المستقبل رئيس آخر، ربّما ديمقراطيّ. تحتاج إسرائيل إلى دعم الكونغرس أكثر من أيّ وقت مضى، لكنّ الكونغرس انعكاس للرأي العامّ الأميركيّ، والدعم لإسرائيل يتآكل بين جدرانه”.
* أستاذ العلوم السياسيّة في الجامعة اللبنانيّة.
