اعترافٌ يقلب الموازين

مدة القراءة 4 د

في لحظةٍ دوليّةٍ تبدو فيها الكلمات أثقل من البنادق، أعلنت دول أوروبيّة عدّة الاعتراف الرسميّ بدولة فلسطين، وهي خطوةٌ رمزيّة تاريخيّة لا تُقاس بمدى حدّة الصوت في القصائد، بل بمدى اتّساع فضائها في الخرائط السياسيّة. الهدف المعلَن: إحياء حلّ الدولتين وإنقاذ ما بقي من جدّيّة لمسارٍ تفاوضيٍّ ينهشه الانقسام والعنف.

أوّل ما يجب فهمه: هذا الاعتراف هو إذن سياسيٌّ لا يُقفل باب الواقع. ليس خلعاً لجذرٍ ولا زرعاً فوريّاً للسيادة على الأرض، بل توسيعٌ لشرعيّةٍ دوليّة تُزوّد السلطة الفلسطينية بمقعدٍ أخفّ وزناً في الميدان وثقلاً في المحافل. يُعطي هذا الفعلَ الفلسطينيّين ورقةَ شرعيّةٍ تُستخدم في المحافل الدولية، وفي المرافعات القانونية، وفي المساومات الدبلوماسيّة. لكنّه لا يحوّل سياج المستوطنات إلى حدودٍ معترف بها بين عشيّة وضحاها.

أثر رمزيّ وقانونيّ

هل يعرض هذا الاعتراف ضغوطاً على الولايات المتّحدة، وعلى دونالد ترامب تحديداً؟ الجواب يمرّ بنقطة مفصليّة: التأثير السياسيّ يختلف عن الإجبار العمليّ. يمثّل اعترافُ حلفاءٍ رئيسيّين للولايات المتّحدة إذلالاً رمزيّاً لنهجٍ أميركيٍّ تقليديٍّ في الشرق الأوسط إن كان هذا النهج متحقّقاً عبر حماية مطلقة لسياسات تل أبيب. إنّه يضع واشنطن في موقفٍ ثنائيّ: إمّا أن تصطفّ مع أصدقائها الأوروبيّين في مسعى لإحياء مسارٍ سياسيّ، أو أن تبقى منعزلة دفاعاً عن نهجٍ مؤاتٍ لحلفٍ آخر. والضغط هنا ليس قسراً اقتصاديّاً أو عسكريّاً فوريّاً، بل ضغطٌ دبلوماسيّ وإعلاميّ يضيّق هامش المناورة ويحرج إدارةً تريد الحفاظ على تحالفاتها الداخليّة مع اليمين الإسرائيليّ وعلى قاعدتها الانتخابية الخارجية.

في لحظةٍ دوليّةٍ تبدو فيها الكلمات أثقل من البنادق، أعلنت دول أوروبيّة عدّة الاعتراف الرسميّ بدولة فلسطين

لكن من غير الواقعيّ أن نتصوّر أنّ اعترافاً أوروبيّاً سيجبر ترامب، أو أيّ رئيس أميركيّ آخر، على تغيير سياسة الموازنة العسكريّة أو إيقاف دعمٍ لوجستيّ أو استخباريّ لإسرائيل خلال ليلةٍ وضحاها. يتحقّق التأثير العمليّ تدريجاً عبر تراكم عزلة دبلوماسية قد تفضي إلى قيودٍ برلمانيّة، قراراتٍ أمميّة، أو ضغوطٍ داخليّة على بُنى صنع القرار الأميركيّ. بعبارةٍ أخرى: الاعتراف يُغيّر زاوية الضوء على القضيّة، ويقوّض الرواية الأحاديّة، لكن لا يملك مفاتيح الصندوق الأميركيّ مباشرة.

هل يستطيع هذا الإعلان أن يوقف أو يحدّ من مخطّطات التوسّع والاحتلال الإسرائيليّ في الضفّة الغربية؟ عمليّاً، لا يبدو أنّ الضفّة ستتحوّل تلقائيّاً إلى منطقةٍ محميّةٍ من خلال تغيير خطابات. المستوطنات والقوانين الإسرائيليّة المحليّة والقوّة العسكريّة الميدانيّة ليست وحدها رهينةً لقراراتٍ دبلوماسيّة. ومع ذلك، للاعتراف أثرٌ رمزيّ وقانونيّ: عندما تصبح فلسطين دولةً معترفاً بها من عدد من القوى الأوروبيّة، تزداد جدّيّة المطالبات بفرض احترام القرارات الدوليّة، وقد تُفتح أمام الفلسطينيّين قنواتٌ قانونيّة في محاكمٍ دوليّة ومؤسّساتٍ أمميّة لفضح الممارسات وطلب عقوبات أو تدابير ضغط. قد لا تمنع هذه الوسائل بيتاً واحداً من التوسّع، لكنّها تُثقل حسابات الحكومات التي تفكّر في مدّ أو تقليص الدعم السياسيّ والاقتصاديّ لإسرائيل.

إقرأ أيضاً: ضرب الدّوحة لترويع الرّياض؟ فتّش عن حلّ الدّولتين

خطوة تاريخيّة

ماذا قد تفعل إسرائيل بعد هذا الإعلان؟ المنطق السياسي الإسرائيلي، خاصّة في دوائر اليمين، يقود إلى خيارين متوازيَين: الأوّل ردّ فوريّ رمزيّ وسياسيّ من خلال تشديد الخطاب وتهديدات بالردّ ودعوات إلى فرض عقوبات دبلوماسيّة على مَن اعترف، وربّما خطوات تقنينيّة في الضفّة. الثاني تكتيك طويل النفس: إخراج ملفّ فلسطين من ساحة الحسم السريع إلى ساحاتٍ قانونيّة ودبلوماسيّة مع بناء تحالفات مضادّة، ومحاولة تحويل الاهتمام الدوليّ إلى حلولٍ أمنيّة أو إنسانيّة تُبقي الوضع التقليدي دون تغيير جذريّ. في كثير من الأحيان، تكون الخطوة الإسرائيليّة التالية مزيجاً من غضبٍ خارجيّ وتصعيدٍ داخليّ يتوافق مع اقتصاد السياسة الإسرائيليّة: إظهار قدرة على الردّ مع تجنّب مواجهةٍ دوليّة كبرى.

الاعتراف الأوروبيّ بدولة فلسطين هو حدثٌ ذو شقّ رمزيّ وقانونيّ عميق. هو خطوة تاريخيّة في مسار تحقيق شرعيّةٍ دوليّةٍ للفلسطينيّين، لكنّه ليس سحراً يغيّر الواقع الجغرافيّ والسياسيّ في الضفّة بين ليلةٍ وضحاها. ما يفعله هو تغيير قواعد الخطاب وإضافة أوراق قوّة للفلسطينيّين على طاولة السياسة الدولية، وفي مقابل ذلك يضع الولايات المتّحدة في موقفٍ أكثر عزلة أو على الأقلّ أمام اختبارٍ لخياراتها. أمّا على الأرض فالمعركة الحقيقيّة ستستمرّ، لكن مع فارقٍ: العالم أصبح اليوم أكثر ميلاً إلى أن يكون شاهداً ومقيماً، لا متفرّجاً محايداً وحسب.

مواضيع ذات صلة

تصويت مجلس الأمن وزيارة الأمير

ستتضح أمورٌ هامةٌ يترقبها العالم باهتمام بالغ، من خلال حدثين بارزين، الأول تصويت مجلس الأمن على مشروع القرار الأمريكي بشأن غزة وما بعدها، والثاني ما…

متى تستقر سورية في مواجهة المخاطر الكبرى؟

توجّه الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة حيث التقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومسؤولين آخرين، وخرج باتفاقٍ حول مكافحة الإرهاب. وفيما كان بنيامين نتنياهو…

سحبُ السّلاح جنوباً سيخضع للتّدقيق الدّوليّ؟

خلص المسؤولون اللبنانيّون، استناداً إلى ما سمعوه من الموفدين الذين توافدوا إلى بيروت، إلى أنّ إسرائيل لن توسّع حربها على لبنان قبل 31 كانون الأوّل…

واشنطن تعيد صياغة مقاربتها السّودانيّة؟

هل كان انفصال جنوب السودان حتميّاً أم غياب قادة بارزين مثل جون غارانغ مهّد الطريق لذلك؟ وكيف لعبت التدخّلات الإقليميّة والدوليّة دوراً في فرض واقع…