حين قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنّه لن يسمح لإسرائيل بضمّ الضفّة الغربيّة، بدا كمن يلوّح بعصا غامضة في وجه حليف طالما اعتاد الإفلات من كلّ الحسابات. لم يكن التصريح نفحة أخلاقيّة عابرة، بل إشارة إلى إعادة رسم المشهد في غزّة، حيث الدم لم يجفّ بعد، وحيث الحرب باتت عبئاً على الجميع. لم يقُل ترامب ما الذي سيفعله بالضفّة فقط، بل مهّد لصفقة في غزّة تحمل ملامح اتّفاق لا يريد تسميته الآن، وكأنّ الكلمات نفسها تخشى أن تسبق الوقائع.
لن يكون الاتّفاق المنتظر هدنة رتيبة كتلك التي خبرتها غزّة في جولات سابقة، بل محاولة لترميم صورة واشنطن التي تآكلت وهي تتغاضى عن القصف والحصار. سيُقدَّم الاتّفاق بملامح إنسانيّة كفتح ممرّات وإدخال مساعدات، لكنّه في جوهره سيكون اتّفاقاً سياسيّاً يهدف إلى تثبيت معادلة جديدة: لا انتصار كاملاً لإسرائيل، ولا هزيمة كاملة للفلسطينيّين، بل منطقة رماديّة تحفظ ماء الوجه للجميع وتُبقي واشنطن في موقع المُمسك بخيوط اللعبة.
حين قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنّه لن يسمح لإسرائيل بضمّ الضفّة الغربيّة، بدا كمن يلوّح بعصا غامضة في وجه حليف طالما اعتاد الإفلات من كلّ الحسابات
دوافع ترامب
لن يكون تنفيذ اتّفاق غزّة سهلاً، فإسرائيل التي اعتادت قلب المعاهدات إلى أوراق تفاوضيّة ستجد نفسها مضطرّة إلى التنازل عن بعض أدوات الحصار مقابل الهدوء على حدودها، فيما الفلسطينيّ الذي نزف حتّى العظم سيجد نفسه أمام خيار صعب: قبول هدنة تتيح له التنفّس من جديد، أو رفضها باعتبارها فخّاً يكرّس العزلة؟ هنا يظهر المعنى الحقيقي لأيّ اتّفاق في غزّة: إنّه ليس ورقة موقّعة بقدر ما هو معادلة وعي تقيس قدرة كلّ طرف على تحويل الدم إلى خطاب سياسيّ يفرض نفسه على العالم.
ما الذي يدفع ترامب الآن إلى تسريع هذا الاتّفاق؟
أوّلاً، حاجته إلى ترميم صورة واشنطن التي تآكلت وهي تُتّهم بازدواجيّة المعايير. فالرئيس الأميركي يدرك أنّ إظهار القدرة على وقف حرب معقّدة في غزّة يكفي لتقديمه زعيماً يمسك بخيوط الأزمات الكبرى.
ثانياً، لأنّ استمرار الحرب بات يهدّد الولايات المتّحدة أكثر ممّا يفيدها، إذ يضعها في موقع الشريك المتواطئ على الدم.
ثالثاً، لأنّ الحليف الإسرائيليّ نفسه أصبح عبئاً. فنتنياهو محاصَر بمذكّرات المحاكم الدوليّة وبتصدّعات داخلية، والإبقاء عليه يتطلّب مخرجاً يقيه الانهيار من دون أن يمنحه نصراً يفاقم عزلة واشنطن أمام العالم.
لن يكون تنفيذ اتّفاق غزّة سهلاً، فإسرائيل التي اعتادت قلب المعاهدات إلى أوراق تفاوضيّة ستجد نفسها مضطرّة إلى التنازل عن بعض أدوات الحصار مقابل الهدوء على حدودها
الاتّفاق، إذاً، سيكون لمصلحة واشنطن أوّلاً، لأنّها ستقدّمه دليلاً على أنّها لا تزال تمسك بدفّة الشرق الأوسط، فيما بدأت أوروبا تتّخذ خطوات أكثر جرأة نحو الاعتراف بفلسطين بعيداً عن الوصاية الأميركيّة. وسيكون لمصلحة إسرائيل جزئيّاً لأنّها ستتخلّص من الاستنزاف اليوميّ، من دون أن تضطرّ إلى تقديم اعتراف سياسيّ بدولة فلسطينيّة كاملة. لكنّه سيكون أيضاً مكسباً للفلسطينيّين ولو نسبيّاً، لأنّ فرض غزّة على طاولة القرار الدولي هو بحدّ ذاته اعتراف بأنّ الحرب لم تستطِع إلغاءهم، وأنّ كلّ صاروخ وكلّ دمعة قد تحوّلت في النهاية إلى لغة مسموعة في العواصم البعيدة.
ثمرة بطعم غزّة
في عمق المشهد، تبدو غزّة كأنّها المرآة التي تعكس حدود القوّة الأميركية. واشنطن قادرة على تجميد النار، لكنّها عاجزة عن إشعال العدالة، قادرة على صياغة نصوص رماديّة، لكنها لا تستطيع أن تمحو من الوعي العالميّ صورة الأطفال الذين قُتلوا تحت الركام. لذلك سيأتي الاتّفاق في غزّة أشبه بعمليّة تجميل متأخّرة لوجه فقد ملامحه منه بحلّ جذريّ لصراع عمره عقود. ومع ذلك، تعرف الشعوب التي أرهقتها الحروب أنّ الاستراحة القصيرة نفسها قد تكون فاصلة بين موت مؤكّد وحياة مؤجّلة.
إقرأ أيضاً: “يوم القدس” السّعوديّ: العرب يستعيدون القضيّة… والدّولة الوطنيّة
لا يقدّم ترامب، في النهاية، هديّة مجّانيّة، بل يحاول أن يقطف ثمرة سقطت بفعل دماء الآخرين. لكنّ المفارقة أنّ هذه الثمرة، مهما حاولت واشنطن أن تضعها في سلّتها، ستظلّ تحمل طعم غزّة ورائحتها، ولن يستطيع أيّ اتّفاق أن يلغي الحقيقة الكبرى: الفلسطينيّ باقٍ، والاحتلال مهما امتلك من قوّة لن يمنحه الزمن أكثر ممّا أخذ.
