لبنان بين وهم الانتصار وشبح الانكسار

مدة القراءة 6 د

ما جرى في جلسة 5 أيلول انتصار للدولة أم هدنة جديدة بين الدولة والدويلة أو انفجار مؤجّل؟ بحثُ حصريّة السلاح على طاولة مجلس الوزراء، بحضور سيّد القصر ورئاسته للطاولة الوزاريّة، سابقة تاريخيّة. كانت “سابقة” بدأت في 5 آب واستُكملت في جلسة 5 أيلول التي اطّلعت على خطّة الجيش اللبناني لتنفيذ حصريّة السلاح، لكن من دون أن تقرّها، مكتفيةً بـ”الترحيب”.

 

إذاً بالشكل انتصرت الدولة مقارنة بوضعها المغيّب منذ عقود. أمّا في المضمون فـ”مكانك راوح”، والانتصار ذاك لا يحصّن لبنان، فيما الآتي قد يكون قاتماً بشكل غير مسبوق إذا لم تستدرك الحكومة خطورة الوضع.

فيما حذت فرنسا حذو الحكومة اللبنانية ورحّبت بخطّة الجيش، ذهبت واشنطن أبعد من ذلك. خرج الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب ببضع كلمات مدوّنة هدّد فيها ضمنيّاً قائلاً: “سأردّ لاحقاً على رفض “الحزب” تسليم سلاحه للدولة اللبنانية”. تحتمل كلمة “لاحقاً” أكثر من معنى، وأحلاها مُرٌّ لمن جرّب ترامب. جاء كلامه بعد تصريح الوفد الأميركي (مورغان أورتاغوس وبراد كوبر) الذي وصف خطّة الجيش بـ”الإيجابيّة” وأرفقها بشرط “التنفيذ”. كان هذا الشرط كافياً ليفهم المسؤولون اللبنانيّون أنّ التلاعب اللغويّ لم ينطلِ على الأميركيّين، والوقت بدأ ينفد ولا ضمانة بشأن جنون بنيامين نتنياهو وتوقيتاته.

أقوال بدون أفعال

أخفقت الحكومة اللبنانية حتّى تاريخه في قراءة المتغيّرات و”تقريشها” من أجل المصلحة الوطنيّة. الهزائم المتتالية لمحور الممانعة منذ اغتيال السيّد حسن نصرالله وخليفته وقادته، وسقوط نظام الأسد وتعرُّض إيران لما تعرّضت له في حرب الـ12 يوماً، كانت تُعتبر فرصة لا تتكّرر لقيام دولة لبنانية سيّدة حرّة ومستقلّة تغلّب مصلحتها وتمنع استخدامها ساحة لتصفية الحسابات الإيرانية استراتيجيّاً أو على طاولة المفاوضات النووية.

إذا تمّ تجريد “الحزب” من سلاحه، فإنّ إسرائيل لا تنوي البقاء في لبنان

لكن في المقابل، نجح “الحزب” حتّى اللحظة في تدوير الزوايا ليكون أكبر تنازلاته هو السماح للحكومة بـ”أقوال من دون أفعال”. هل ترضخ الحكومة لتهديداته باستخدام سلاحه داخليّاً؟ هل توكل مهمّة نزع سلاحه بقصد أو بغير قصد لإسرائيل بغطاء أميركي؟ الطابة في ملعب “الدولة القادرة”، وهي أمام امتحان صدقيّة “وطنيّة” “الحزب”. هل يضحّي “الحزب” مجدّداً ببيئته أوّلاً وبلبنان تالياً على مذبح المصلحة الإيرانية وتوقيتها؟ هل تسمح الحكومة اللبنانية له بالتضحية بلبنان واللبنانيّين مجدّداً؟

“التّلاعب” في زمن الأخطار

كأنّ لبنان يمتلك رفاهية الوقت لـ”التلاعب اللغويّ”. تارة استُبدلت كلمة “نزع السلاح” بـ”حصريّة السلاح”، وتارة أخرى استبدل “إقرار” خطّة الجيش بـ”ترحيب” الحكومة بها، وتالياً “لا سلاح ظاهر” عوضاً عن “لا سلاح”، وتكرّ السبحة وتكثر الأمثلة. لكنّ شراء الوقت الذي يعمد إليه “الحزب” وتنجرّ إليه الحكومة يأتي في التوقيت الأسوأ.

لبنان

تؤكّد المصادر في واشنطن أنّ محاولات الإيهام بأنّ الأميركيين لم ينجحوا في الضغط على تل أبيب لتنفيذ استراتيجية “الخطوة مقابل خطوة” هي للاستهلاك المحلّي، وأنّ لبنان لم يلتزمها أوّلاً. وفي حين نقل المبعوث الأميركي توماس بارّاك إلى الرئيس نبيه برّي قبل 5 آب استعداد إسرائيل للسير “بالخطوة مقابل خطوة”، خرج الأمين العامّ لـ”الحزب” نعيم قاسم مفاجئاً الجميع، ومن بينهم الرئيس برّي، قائلاً: “لا تعنينا هذه الأفكار ولا هذه الخطّة، وسلاحنا روحنا وهيهات منّا الذلّة”.

عاد بارّاك خائباً، وتحجّر الموقف الإسرائيلي. على الرغم من ذلك عادت واشنطن وتل أبيب لتأكيد أنه “إذا تمّ تجريد “الحزب” من سلاحه، فإنّ إسرائيل لا تنوي البقاء في لبنان”. على إثر هذا المتغيّر، الذي يتحمّل مسؤوليّته نعيم قاسم لخروجه بموقف مضادّ وفق إملاءات وتوقيت طهران، انتقلت أميركا من موقع الداعم للخطوة مقابل خطوة إلى فكرة “تنفيذ” مقابل “تنفيذ”.

كأنّ لبنان يمتلك رفاهية الوقت لـ”التلاعب اللغويّ”. تارة استُبدلت كلمة “نزع السلاح” بـ”حصريّة السلاح”، وتارة أخرى استبدل “إقرار” خطّة الجيش بـ”ترحيب” الحكومة

لا يتوقّف التلاعب هنا، والمحطّات كثيرة:

– استحضار الحوار والاستراتيجية الوطنيّة للدفاع، المرفوضة من كلّ الأفرقاء اللبنانيّين بعد تجارب الحوار الفاشلة في لبنان وانقلاب “الحزب” على كلّ مقرّراته من جهة، ونفاد الوقت لإجراء كهذا من جهة أخرى.

– التلويح بحرب أهليّة، فيما كلّ المكوّنات اللبنانية غير مسلّحة. لا أطراف لهذه الحرب، بل مواجهة بين الشرعية وفصيل “متمرّد” على الحكومة التي يشكّل جزءاً منها.

– الحديث عن الميثاقيّة فيما الثلاثيّة التي يتحدّث عنها “الحزب” غير دستورية، والحكومة تستنبط ميثاقيّتها من المناصفة، وانسحاب الوزراء الشيعة لا يفقدها هذه الميثاقيّة.

– التلويح بورقة الشارع الذي لا تتجاوز عناصره بضع درّاجات في مناطق نفوذ “الحزب”.

انفجار مؤجّل

وضع الخوف من انفجار الداخل لبنانَ بين فكّي إسرائيل، وأيّ تهرّب في الداخل بات بطاقة للخارج لممارسة كلّ الضغوطات، بما فيها العسكريّة.

لبنان اليوم أمام مفترق طرق: إمّا السير بخطّة واضحة وفق مهل زمنيّة مقبولة أميركيّاً وإسرائيليّاً لـ”حصر السلاح” بيد الدولة، وإمّا ستفرج واشنطن عن “جنون” نتنياهو الذي لوّح بـ”حرب هي الأشرس على لبنان”.

يداهم الوقت الحكومة اللبنانية فيما لم تتّخذ قرارها، ومحاولات شراء الوقت لا توفّر على لبنان حرباً ولا تقيه انفجاراً. قد يصلح التلاعب اللغويّ في الوقت الضائع، وقد يصلح التلاعب السياسي في إطار مهل محدّدة، لكنّها حتّى اللحظة غير محدّدة، فيما التلاعب الداخلي (بورقة الشارع وغيرها) ساقط بوجود قرار حكوميّ وفصيل سيختار بين “صورة المقاومة المشرّفة تاريخيّاً” وصورة “المتمرّد الانقلابيّ” التي سيذكّره بها التاريخ.

إقرأ أيضاً: نزع “ثروات الأزمة” أصعب من نزع السلاح

حان الوقت لـ”الحزب” لتغليب مصلحة اللبنانيّين وبيئته على مصلحة طهران، ومشاركة الدولة اللبنانية في انتزاع الذريعة من نتنياهو لتحقيق حلمه بدعم أميركيّ ودوليّ. إمّا تستقطب الدولة اللبنانية الدعم الأميركيّ والدوليّ لمصلحتها بوجه نتنياهو، وإمّا تخسر ذاك الدعم لمصلحة إسرائيل على حساب كلّ لبنان. خياران لا ثالث لهما.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@BadihYounes

مواضيع ذات صلة

محمد بن سلمان فوق البروتوكول في البيت الأبيض

فرشت واشنطن السجادة الحمراء لاستقبال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وأقامت كل المراسم الشرفية، بما في ذلك العرض العسكري الجوي بطائرات “إف 35″،…

ترامب يكبح إسرائيل: هل استنجد نتنياهو ببوتين؟

يسهل استنتاج التحوُّل الذي طرأ على الإدارة في الولايات المتّحدة لفرض قرار واشنطن على قرار تل أبيب. ولطالما استعر جدل الباحثين خلال العقود المنصرمة بشأن…

تصويت مجلس الأمن وزيارة الأمير

ستتضح أمورٌ هامةٌ يترقبها العالم باهتمام بالغ، من خلال حدثين بارزين، الأول تصويت مجلس الأمن على مشروع القرار الأمريكي بشأن غزة وما بعدها، والثاني ما…

متى تستقر سورية في مواجهة المخاطر الكبرى؟

توجّه الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة حيث التقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومسؤولين آخرين، وخرج باتفاقٍ حول مكافحة الإرهاب. وفيما كان بنيامين نتنياهو…