انحسار نفوذ إيران… عروبة الطّائفة مرهونة ببرّي

مدة القراءة 6 د

تتوالى “الإغراءات” المفاجئة والمستغرَبة التي يطلقها دونالد ترامب، المبنيّة على استثمار المال في معالجة الأزمات. هكذا دواليك، من فكرة جعل غزّة “ريفييرا” بعد نقل أهلها إلى دول تكافَأ باستثمارات ماليّة، إلى إقامة “منطقة ترامب الاقتصاديّة” في جنوب لبنان. وقد نقل موقع “أكسيوس” عن الموفد الأميركي توم بارّاك أنّه اقترح الأمر على وزير الشؤون الاستراتيجيّة الإسرائيلي رون ديرمر.

إذا كان الهدف البعيد المدى إغراء إسرائيل، فبإمكان واشنطن استخدام “قوّتها الناعمة” كي تقبل إسرائيل بتنفيذ انسحابات من الجنوب، فهل هذا يرضي “الحزب” وإيران، خصوصاً أنّ بارّاك قد أشار خلال زيارته الأخيرة للبنان إلى دور إيران وشراكتها في حلّ ملفّ السلاح؟

 

أيقظ اقتراح بارّاك، كما نقل موقع “أكسيوس” الأميركي، خيال باحثين عن حلول لمشكلة وجود إيران “والحزب” المسلّح على الحدود الجنوبية مع إسرائيل.

صيغة تعايش أميركيّ إيرانيّ لبنانيّاً؟

هل يستنسخ ذلك صيغة تعايش بين أميركا وإيران فتعيد الأخيرة مثلاً بناء “حديقة إيران” في بلدة مارون الراس الحدوديّة التي جرفتها القوّات الإسرائيلية لِما تمثّل من رمز لنفوذ طهران في لبنان تحوَّل معلماً سياحيّاً. شمل الجرف الإسرائيلي إزالة تمثال قاسم سليماني في البلدة، وهو الذي انتشر في العديد من المناطق الشيعية التي لـ”الحزب” نفوذ راجح فيها.

تشمل فكرة “منطقة ترامب” هذه “موافقة السعوديّة وقطر على الاستثمار في إعادة إعمار الجنوب بعد انسحاب إسرائيل”. لكنّ ممانعة طهران و”الحزب” سحب السلاح الذي يعدّ الجيش خطّة تنفيذيّة لتحقيقه، تجعل الأمر بعيد المنال. تنذر هذه الممانعة بمخاطر عودة إسرائيل إلى تصعيد عسكري بحجّة تدمير هذا السلاح، ولافتعال صدام داخليّ، سواء بين مكوّنات المجتمع اللبناني، أو لتوفير أرضيّة لصدام بين “الحزب” والجيش، لا يريده الأخير حتماً.

وحدة الطائفة الشيعية صارت متوقّفة على رئيس البرلمان نبيه برّي، لا على “الحزب” ولا على إيران

القوّة النّاعمة الإيرانيّة

أوساط تتعاطف مع “المقاومة” ضدّ إسرائيل كانت طرحت فكرة عدم قدرة السلطة اللبنانية على سحب سلاح “الحزب” لأنّ لدى الأخير “قوّة ناعمة” سياسية تحول دون تجريده من سلاحه بقرار سياسي. فطهران بنَت على مدى عقود سيطرة كاملة على قرار الطائفة الشيعية، سواء بالتعبئة السياسية أو العقائدية الدينية، أو بالمال، وبربطِ جزء من الطائفة الشيعية بتحالفات سياسية داخلية وخارجيّة متينة.

يعتبر هؤلاء أنّ هذه التحالفات والتحوّلات في ولاءات جزء من المجتمع الشيعي تمكِّن طهران من تجاوز الضغوط الأميركية والإسرائيلية عليها كي تتأقلم مع التحوّلات التي حصلت بعد الحرب الإسرائيلية على “الحزب”، وبعد سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، الذي شكّل ضربة قاصمة لتوسّعها الإقليمي الذي بنته بإمكانات ضخمة.

في المقابل هناك من يتشكّك في حجم “القوّة الناعمة” الإيرانية التي يمكن أن تحفظ للسلاح تأثيره السياسي في التركيبة اللبنانية. فالتعريف المتوافَق عليه لهذه “القوّة” أنّها القدرة على التأثير في الدول والجماعات، لتحقيق المصالح عبر الثقافة والقيم والنظام الاقتصادي، بدلاً من الإكراه العسكري والأمنيّ أو العقوبات الاقتصاديّة (القوّة الصلبة).

شتّان ما بين النظام الاقتصادي والقيم والثقافة (المقموعة) في إيران وبين تلك التي في الدول المخاصمة لها في المنطقة. وفي حالة لبنان، وبدلاً من أن تركن طهران إلى ما بنَته من نفوذ سياسي واجتماعي وثقافي في الطائفة الشيعية وغيرها، تهدر قوّتها الناعمة. بدلاً من تحوُّلها بديلاً للنفوذ بالسلاح، تصرّ القيادة الإيرانية على أن يكون المستوى السياسي مرهوناً بالمستوى العسكري للنفوذ، عبر تمسّكها بالسلاح.

هذا ما يؤدّي إلى تآكل قوّتها الناعمة تدريجاً. فالسلاح استنفد أغراضه بعد سقوط صفته الردعيّة بوجه أميركا وإسرائيل، جرّاء أوهام الحسابات الغيبيّة للقدرة على هزم إسرائيل وأميركا وقبلها القدرة على إخضاع المنظومة العربية بكاملها.

هناك من يتشكّك في حجم “القوّة الناعمة” الإيرانية التي يمكن أن تحفظ للسلاح تأثيره السياسي في التركيبة اللبنانية

قد تكون زيارة الأمين العامّ للمجلس الأعلى للأمن القومي في إيران علي لاريجاني الأخيرة لبيروت أظهرت بعض وجوه القوّة السياسية في بلاد الأرز، لكنّها لا ترقى إلى مستوى تأثير القوّة الناعمة.

أما زال حقّ الفيتو قائماً؟

مع أنّ لاريجاني أوحى بأنّه ما زال لبلاده حق الفيتو على قرارات السلطة المركزيّة الجديدة، لا سيما خيارها حصر السلاح، وبأن لا فعّاليّة لأيّ شخصيّة شيعيّة خارج إطار ثنائيّ “الحزب” وحركة “أمل”، يمكن ذكر الآتي من الأدلّة على حدود “القوّة الناعمة” المعزّزة بالسلاح:

إيران

– ارفضاض حلفاء “الحزب ” بين المسيحيين والسنّة والدروز عنه، علاوة على ارتفاع أصوات الشيعة المعارضين لسطوته، من العوامل التي تقود إلى تآكل قوّة طهران الناعمة لبنانيّاً. تصرّف هؤلاء الحلفاء على أنّ البلد صار في زمن آخر.

– الحملات الإعلاميّة التي تطال رموز السلطة الجديدة وفي الطوائف الأخرى، ومنطق التهديد يضع طهران و”الحزب” في عزلة. انعكس ذلك خسارة تعاطف ضبّاط كبار في الجيش من الطوائف كافّة، مع مبدأ “المقاومة” للاحتلال.

– الوجه الآخر للحملة ضدّ قرار تكليف الجيش بخطّة حصريّة السلاح هو اعتباره انصياعاً لأميركا وإسرائيل. وتوجيه رسائل لأميركا من بيروت هو بمنزلة اعتراف بأنّ لبنان منطقة نفوذ غربي – أميركي ليس مسموحاً استخدامها في الصراع بين التحالف المفترض من إيران وروسيا وبين الدول الغربية، مثلاً.

– لم يعد “الحزب” قادراً على نقل أسلحة بالشاحنات، ساعة يشاء، يردّ الجيش محتوياتها إليه، إذا تعرّضت لحادث سير. بات مكبّلاً ولم يعد بإمكانه أن يقيم حواجز أمنيّة بضاحية بيروت الجنوبية، أو في بعلبك باسم ضرورات المقاومة. سينعكس ذلك في بعض المناطق حيث يجري التفلّت من دفع فواتير الكهرباء أو الرسوم بحماية من السلاح مثلاً.

لم يعد “الحزب” قادراً على نقل أسلحة بالشاحنات، ساعة يشاء، يردّ الجيش محتوياتها إليه، إذا تعرّضت لحادث سير

– وحدة الطائفة الشيعية صارت متوقّفة على رئيس البرلمان نبيه برّي، لا على “الحزب” ولا على إيران. فحركة “أمل” التي تختزن خليطاً من الناقمين على ما سبّبته السياسة الإيرانية للبنان من كوارث ومآسٍ، ومن الذين يشعرون بالغبن حيال قرار سحب السلاح بعد اعتيادهم “عسكرة” الطائفة على الطريقة الإيرانية، يقوم فكرها السياسي على عروبة الشيعة تاريخياً.

إقرأ أيضاً: طهران تتأقلم مع نتائج الحرب وتضحّي بـ”الحزب”

جمهور “أمل”، بمن فيهم برّي، يعتبرون، مثلاً، أنّ التغيير الإيراني في قواعد المناسبات الدينية الذي طرأ بحكم نفوذ طهران المتراكم، يخالف التقاليد المتوارثة. التمايز لهذا السبب وغيره، دفع بارّاك، نتيجة أحاديثه مع برّي ومع سائر المسؤولين اللبنانيين عن موقع الطائفة في البلد، إلى مخاطبة الشيعة في زيارته الأخيرة… ولموقع الطائفة في المرحلة المقبلة حديث آخر.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@ChoucairWalid

مواضيع ذات صلة

فوز ممداني لبنانيّاً: “قوى التّغيير” تحتفل مع سوروس

عاد الديمقراطيّون من بعيد، بفوز زهران ممداني في انتخابات عمدة نيويورك، في لحظة بدا فيها أنّ الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب أحكم السيطرة على المشهد السياسيّ…

الشّرع في البيت الأبيض: شرعيّة الصّورة الأقوى..

لم يكن استقبال الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب للرئيس السوريّ أحمد الشرع في البيت الأبيض حدثاً عابراً في سياق العلاقات الدوليّة، بل محطّة سياسيّة تستحقّ التوقّف…

رسائل طهران في كتاب “الحزب” إلى لبنان

ليس مهمّاً استطلاع أسباب توقيت الكتاب المفتوح الذي وجّهه “الحزب” إلى الرئاسات الثلاث قبل أيّام، ولا تحليل شكل ذلك الكتاب ومضمونه. فرسائل النصّ، وإن استغرقت…

بعضٌ منه في ذكرى رحيله

كانت حياته سلسلة من المآزق، منها ما كان مكرراً تعود عليه وتعايش مع مؤثراته، ومنها ما هو جديدٌ تماماً. لم يكن ليستأثر بقرارٍ سياسيٍ للخروج…