غزّة ترسم مصير فلسطين

مدة القراءة 6 د

مع اقتراب نهاية الحرب في غزّة، سواء بهدنة مؤقّتة الآن أو باتّفاق لاحق لإنهاء الحرب، بصيغة أو أخرى، سيكون لزاماً على المقاومة الفلسطينية مراجعة ما حدث، ولماذا حدث، وما هي النتائج الاجتماعية والسياسية. والسؤال المباشر هو: هل فتحت عمليّة طوفان الأقصى نافذة في الجدار الإسرائيلي، وأحدثت اختراقاً حاسماً في الوعي الشعبي العالمي، وأنتجت اقتناعاً دوليّاً جادّاً بضرورة بسط الحلّ السياسي توصّلاً إلى حلّ الدولتين؟ الجواب ملتبس.

 

بحسب أدبيّات حرب العصابات، التي مارسها الثوّار الماركسيّون في القرن العشرين، تنبني هذه الحرب على ثلاث مراحل:

1- الإعداد وما يتطلّبه ذلك من وضع رؤية سياسية، وتهيئة أيديولوجية، وتجنيد المقاتلين والأنصار، وتدريب عسكري على النمط المخصوص لهذه الحرب، وتوفير السلاح والإمداد، وتجهيز الإعلام المقاوم خطاباً وكوادر ووسائل. وهي مرحلة الدفاع أو الكمون الاستراتيجيّ.

2- تنفيذ هجمات مباغتة ضدّ مراكز العدوِّ، وتحشّداته، وعُقد مواصلاته، وشبكة اتّصالاته، وقياداته المؤثّرة، لإنهاكه واستنزافه، على طريقة البرغوث والكلب. فلا يتمكّن من الإمساك بالمقاومة، ولا كشف مراكزها، ولا رصد قياداتها، ولا ضرب إمداداتها، ولا تهديد تنقّلاتهاِ، بحيث يتسبّب كلّ ذلك بمزيد من المعاناة للاحتلال، وهو يحاول القضاء على عدوّ شبح. وهنا يتحقّق التوازن الاستراتيجي بين المقاومة والاحتلال.

3- القيام بالهجوم الحاسم، في لحظة ميل الكفّة السياسية والميدانية إلى المقاومة. ومن أجل تنفيذ هذه المرحلة، لا بدّ من إنجاز الانتقال من حرب العصابات إلى الحرب النظامية. وهي مرحلة الهجوم الاستراتيجيّ.

اعتقد السنوار ورفاقه بأنّ محور المقاومة سيقتنص الفرصة لإسناد غزّة بل تحرير فلسطين لكنّ كلّ ذلك لم يكن

لا داعم حقيقيّاً

قبل ذلك، وأثناء حرب العصابات لا بدّ من دولة أو دول داعمة. فالمقاومة الفيتناميّة كانت ناشطة في ستّينيّات وسبعينيّات القرن الماضي في فيتنام الجنوبية المدعومة من واشنطن، وتتلقّى الدعم مباشرة من الجيش النظامي لفيتنام الشمالية. وهي حالة نموذجية ناجحة من حرب العصابات. ففيتنام الجنوبية كانت مدعومة مباشرة من الولايات المتّحدة بكلّ الموارد المتاحة، واستندت فيتنام الشمالية إلى دعم دول كبرى مثل الصين والاتّحاد السوفيتي، وكان شريان الحياة موصولاً بين فيتنام الشمالية وميليشيا “الفيت كونغ” في الجنوب.

بالمقارنة، تقاتل حركة حماس وبقيّة فصائل المقاومة الولايات المتّحدة والغرب كلّه بواسطة إسرائيل، ولا يوجد لها داعم موازٍ. فليست إيران قوّة عظمى، ولا تمتلك قوّة تقليدية مناسبة لبلد شاسع الجغرافيا. وليس عند إيران استعداد لأن تضحّي بمصالحها من أجل غزّة، ولا من أجل أفضل إنجازاتها على الإطلاق، وهو “الحزب” في لبنان، وهو ما انكشف في الحرب الدائرة منذ 7 تشرين الأوّل 2023. أمّا العلاقة المستجدّة بين حركة حماس والاتّحاد الروسيّ، فلم تكن لها نتائج عمليّة حتّى بالحدّ الأدنى، فموسكو وفّرت الدعم الكلامي للقضيّة الفلسطينية عامّة، والدعم الدبلوماسي لها في مجلس الأمن، من دون أيّ دعم مادّيّ حقيقيّ من أيّ نوع.

غزّة

إلى ذلك، ومع الفارق الهائل في الإعدادات والظروف المطلوبة في حرب عصابات ناجحة، يمكن القول إنّ حركة حماس حقّقت إلى حدّ ما المرحلتين الأولَيَين من حرب العصابات في قطاع غزة، بين عامَي 1987 و2005، أي بين الانتفاضة الأولى التي انطلقت شراراتها من مخيّم جباليا في غزّة، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من طرف واحد. لكنّها وقعت في فخّ رئيس الحكومة الأسبق أرييل شارون، الذي جنّب جيشه الاستنزاف العسكري، وتهّرب من الحلّ السياسي كنتيجة حتميّة للمقاومة، وترك قطاع غزّة سجناً كبيراً مع سيطرته على حدود القطاع، وعلى هوائه وبحره، وفرض حصار خانق عليه.ِ

ليس عند إيران استعداد لأن تضحّي بمصالحها من أجل غزّة، ولا من أجل أفضل إنجازاتها على الإطلاق

“حماس” ونموذج “الحزب”

تدحرجت “حماس” نحو الانضمام إلى هياكل سلطة مؤقّتة تحت الاحتلال عقب اتّفاق أوسلو عام 1993، عندما شاركت في الانتخابات النيابية عام 2006، وانقلبت على حركة فتح في غزّة عام 2007، فأصحبت حكومة الأمر الواقع قبل أن يتحقّق التحرير الحقيقي لهذه البقعة من الأرض. إنّما كان الشعور الزائف بالحرّية النسبيّة منذ ذلك الحين. وربّما ما فعلته “حماس” تأثّراً بما قام به حليفها في لبنان “الحزب” الذي اندرج في مؤسّسات الدولة عام 1992 من خلال الانتخابات النيابية، قبل 8 سنوات من الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الجنوب عام 2000، وكان التبرير هو حماية المقاومة وخيار تحرير الجنوب بالقوّة. وقام بما يشبه الهجوم الحاسم في المرحلة الثالثة، عندما انهار جيش أنطوان لحد أمامه، وكأنّنا هنا أمام مشهد شبيه بفيتنام الشمالية وهي تجتاح فيتنام الجنوبية عقب انسحاب الجيش الأميركي عام 1975، أو لحظة سيطرة حركة طالبان على أفغانستان عام 2021، وانهيار الجيش الأفغاني. إلّا أنّ المقارنة السريعة تكشف أنّ “حماس” لم تكن في المرحلة الثالثة، عندما انقلبت على “فتح”، ودخلت الانتخابات النيابية قبل عام بالشعار نفسه، وهو حماية المقاومة. وهنا كان التبنّي شبه الكامل لمنطق المقاومة داخل الدولة، أو الدويلة داخل الدولة. لكنّ الوضع في فلسطين أسوأ بكثير، فالسلطة الفلسطينية كلّها تحت الاحتلال، ولا تقوم على بقعة حرّة، بل كانت ملزَمة بالتنسيق الأمنيّ مع الاحتلال، فوقع الصدام.

مع اقتراب نهاية الحرب في غزّة، سواء بهدنة مؤقّتة الآن أو باتّفاق لاحق لإنهاء الحرب، بصيغة أو أخرى، سيكون لزاماً على المقاومة الفلسطينية مراجعة ما حدث

مصير فلسطين

كان الوضع محيّراً بين الاستمرار بحرب عصابات عن بُعد (إطلاق الصواريخ أو حفر الأنفاق)، أو الانشغال ببناء قوّة شبه نظامية، مع ما يتطلّب ذلك من تهدئة طويلة الأمد، وتنازلات سياسية، وما قطع هذا التردّد هو خروج يحيى السنوار من السجن الإسرائيلي، بصفقة تبادل عام 2011، فهيمن السجين السابق على مركز القرار في غزّة تدريجيّاً، وفرض أجندته الخاصّة على العمل العسكري، الذي بات خاضعاً لمنطق الأسير السابق الملتزم إطلاق رفاقه الباقين. وكانت حكومات إسرائيل منذ انسحابها من غزّة تنفّذ “استراتيجية جزّ العشب”، بمعنى أنّها تنفّذ هجوماً قصيراً ومدمّراً كلّ بضع سنوات، لضرب ما تراكم من قوّة لدى المقاومة، وهكذا دواليك، بدلاً من شنّ حرب مكلفة داخل زواريب مخيّمات غزّة وأنفاقها المتعرّجة، إلى أن قرّرت قيادة القسّام تغيير ميزان القوّة بعمليّة نوعيّة وكبيرة تؤدّي إلى تحرير قطاع غزّة، وليس فقط تصفير السجون في فلسطين المحتلّة.

إقرأ أيضاً: أخطاء إيران التي جرّت “خطيئة” الحرب

بُنيت العملية على افتراضات خاطئة، وهي أنّ إسرائيل لن تخاطر بأسراها، ولن تغامر باقتحام غزّة وسط غابة من البنادق، في أكثر الأماكن اكتظاظاً في العالم، وأنّ الغرب والشرق لن يسمحان لإسرائيل بإبادة الفلسطينيّين. والأهمّ من ذلك، اعتقد السنوار ورفاقه بأنّ محور المقاومة سيقتنص الفرصة لإسناد غزّة بل تحرير فلسطين. لكنّ كلّ ذلك لم يكن. وبات السؤال الآن: ما مصير فلسطين بعد الطوفان؟

 

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

فظائع بشار الأسد: البحث عن 3700 طفل أخفاهم النظام..

جريمة تُضاف إلى جرائم نظام الأب والابن التي لا تُعدّ ولا تُحصى، والتي فاقت بفظاعتها جرائم أيّ نظام سابق أو معاصر له. بيد أنّها جريمة…

طرابلس- الجولان: العبث الإسرائيلي في زمن التّحوّلات الكبرى

وجد الإعلام الإسرائيلي “مصدراً سوريّاً” للكشف عن سيناريوهات اتّفاق تطبيع مع إسرائيل. تحدّث “السبق” عن أثلاث من هضبة الجولان المحتلّة تعود إلى سوريا أو تبقى…

“هجوم حماس”: فرصة لنتنياهو لتهجير الفلسطينيّين (2/5)

شكّل هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل ذريعة لبنيامين نتنياهو لتحقيق جزء من مخطّط التهجير وتغيير الواقع الديمغرافي في غزّة والضفّة الغربية.   قدّم…

التّسخيري: مآرب أخرى في برنامج إيران النّوويّ

كنتُ أحضر مؤتمراً بالأردن عام 2004، ويومها قال لي الشيخ محمد علي التسخيري رئيس منظّمة الثقافة الإسلامية في إيران بعد السلام: ما رأيك في القرار…