أتاحت اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في ربيع عام 2025 للبنان فرصة إعادة ضبط مساره. وكانت المشاركة عبر الوفد الموحّد، وقرض الطاقة المقدّم من البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار، والتعديلات المنتظرة على قانون السريّة المصرفية، كلّها إشارات مشجّعة. لكن خلف المسار الدبلوماسي تكمن قضيّة أعمق، يجب على لبنان مواجهتها إذا كان يسعى حقّاً إلى التعافي: الوهم بأنّ هذه الأزمة مصرفيّة أو نقديّة بحتة.
ركّز جزء كبير من أجندة الإصلاح، المحلّية والخارجيّة، بشكل ضيّق على البنك المركزي والقطاع المصرفي وإعادة هيكلة المصارف التجارية. صحيح أنّ سياسات مصرف لبنان ساهمت في الكارثة، لكن حتّى السلطة النقدية الأفضل إدارة في العالم لن تستطيع البقاء على قيد الحياة عندما يُطلب منها دعم الكهرباء وتمويل رواتب موظّفي القطاع العامّ وأجورهم وامتصاص الخسائر المنهجية الناجمة عن عقود من الخلل السياسي.
ركّز جزء كبير من أجندة الإصلاح، المحلّية والخارجيّة، بشكل ضيّق على البنك المركزي والقطاع المصرفي وإعادة هيكلة المصارف التجارية
على الرغم من حسن النيّة، يخاطر إطار صندوق النقد الدولي بتعزيز هذا التحيّز. ولا يمكن للإصلاحات التقنيّة في المشهد النقدي أن تعوّض غياب أداء ماليّ ذي صدقيّة. لا يكفي تنظيم وإعادة هيكلة المصارف أو تجديد الميزانية العمومية لمصرف لبنان. يجب على لبنان إعادة هيكلة الماليّة العامّة بالكامل: السياسة الضريبية، الإنفاق العامّ، استهداف الدعم، قواعد المشتريات وآليّات خدمة الديون.
إذا أُريد للإصلاح أن يكون ذا صدقيّة ومستداماً، يجب أن يبدأ من حيث فشل السوق، بالمنطق الاقتصادي، فشلاً كاملاً، داخل الدولة نفسها (Governments should intervene only where markets fail).
التدخل المستهدَف في القطاع الماليّ
لنكن واضحين: لم تفشل جميع المصارف في لبنان. تصرّف البعض بحكمة. حافظ آخرون على سيولة جزئية وعلاقات مستدامة مع العملاء والمصارف المراسلة، وتكييفها حيثما أمكن ذلك. إنّ تجميع القطاع بأكمله في خانة “المصرف الفاشل” أمر غير عادل ويؤدّي إلى نتائج عكسية. من الطبيعي أن تكون المصارف التي تصرّفت بحكمة تعيد تقويم موجوداتها ومطلوباتها وفق متطلّبات السوق وأفضل الممارسات المصرفية (Banking best practices)، وبدلاً من تدمير ما بقي من الوساطة المالية، ينبغي أن يكون الطريق إلى الأمام هو حلّ هادف: التعامل مع المؤسّسات المتعثّرة بشكل حاسم، مع الحفاظ على المؤسّسات القابلة للاستمرار وتوفير بيئة اقتصادية واستثمارية جيّدة لمواكبة عودتها إلى خدمة الاقتصاد الوطني.
هذا هو المكان الذي يصبح فيه قانون النقد والتسليف أمراً وممرّاً حيويّاً. من دون تحديثه، يفتقر لبنان إلى الأدوات اللازمة لإجراء حلّ منظّم. يجب أن تمكّن التعديلات الهيئات الرقابية من:
- معالجة المصارف الفاشلة من دون شلّها من خلال اللجوء إلى القضاء والمحاكم.
- استخدم أدوات الإنقاذ الداخلي (Bail-In) والإدارة المؤقّتة بحكمة وشفافيّة.
- حماية صغار المودعين والحفاظ على السلامة والاستقرار النقدي.
ما يحتاج إليه النظام ليس انقلاباً لكن مركز فرز يسترشد بالقانون لا الارتجال.
لم تفشل جميع المصارف في لبنان. تصرّف البعض بحكمة. حافظ آخرون على سيولة جزئية وعلاقات مستدامة مع العملاء والمصارف المراسلة، وتكييفها حيثما أمكن ذلك
القطاع الخاصّ حليف التّعافي والنّموّ الاقتصاديّ
في غياب مؤسّسات الدولة العاملة وشلل تامّ في تقديم الخدمات للمواطنين، كان القطاع الخاصّ هو الذي حافظ وقف سدّاً منيعاً لمنع الانهيار الكامل. وسدّت الشركات والمنظّمات غير الحكومية وبعض المصارف التجارية وروّاد الأعمال الاجتماعيون الفجوات في توزيع الأغذية والتعليم والخدمات اللوجستية والرعاية الصحّية، ولذا أيّ خطّة إنقاذ وتعافٍ تهمّش هذه الجهات الفاعلة من أجل حلول مركزية تمّ الاستيلاء عليها سياسيّاً، محكوم عليها بالفشل.
السلطة السياسية اللبنانية، المفلسة وما زالت تعاني فقدان الثقة، عليها أن تتحوّل من حالة النأي بالنفس إلى عامل تمكين ومنظّم في الاقتصاد الحرّ. تقدّم الشراكات بين القطاعين العامّ والخاصّ (Soft-PPP)، لا سيما في قطاعات غير البنية التحتية مثل التدريب المهني وإدارة النفايات والرعاية الصحّية، نماذجَ قابلة للتطوير والتعافي مع المساءلة.
يجب التوقّف عن النظر إلى القطاع الخاصّ كمشتبه فيه، وبدء التعامل معه كشريك في إعادة الإعمار. ما أظهرته مكوّنات هذا القطاع من قدرة استثنائية على الصمود والتأقلم مع المتغيّرات النقدية والمالية والصحّية والاجتماعية والأمنيّة، يجب أن يُستثمر في مسيرة الإنقاذ والإنعاش والتعافي والنموّ الاقتصادي المستدام للبنان.
لا يمكن للبنان إعادة بناء ثقة المستثمرين أو استعادة الخدمات المصرفية بينه وبين المصارف المراسلة من دون تطبيق قويّ لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب
الصّدقيّة تتوقّف على خطوتين فوريّتين
إذا أراد لبنان الخروج من دائرة “الفشل واللوم”، فعليه أن يتصرّف بسرعة على جبهتين إضافيّتين:
- إخراج لبنان من اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي – FATF: لا يمكن للبنان إعادة بناء ثقة المستثمرين أو استعادة الخدمات المصرفية بينه وبين المصارف المراسلة من دون تطبيق قويّ لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. التعديلات الأخيرة على السرّية المصرفية هي بداية. ما نحتاج إليه الآن هو التنفيذ لتوجيه إشارة سياسية واضحة إلى أنّ الشفافيّة الماليّة ليست اختيارية.
- إعادة هيكلة الديون السيادية استراتيجيّاً: عبء دين لبنان، سواء المحلّي أو سندات اليوروبوند على حدّ سواء، غير مستدام. يراقب الدائنون جدّية أداء السلطة السياسية في إدارة المالية العامّة. وهذا يعني بدء محادثات فنّية، واعتماد إطار عادل للدائنين المحليّين والخارجيّين، وحماية الإنفاق العامّ الأساسي أثناء العملية. سيجعل التأخير الشروط أكثر قسوة لاحقاً.
إقرأ أيضاً: “حرب” نفطيّة مصغّرة في الظّلّ.. تديرها السّعوديّة؟
لقد حان الوقت للتخلّي عن الحديث والترويج للإصلاح من دون أن تتبع ذلك إجراءات تنفيذية حقيقية. ليس القطاع المصرفي هو المشكلة الأساسية. فالفساد الماليّ والإداري في كيان الدولة هو كذلك. ولن يتحقّق الإنقاذ والإنعاش والانتعاش من خلال المشاركة في المحافل والاجتماعات الدولية وحدها، بل عندما يضع لبنان أسسه الخاصّة.
ليبدأ الإصلاح حيث كان المنطق الاقتصادي والأداء المسؤول غائبين إلى أقصى حدّ في نظام المالية العامّة وفي مساءلة الدولة وفي استعادة ثقة شعبها، وليس حيث يكون الضرر أكثر وضوحاً.
إذا جرؤ لبنان على الإصلاح بأمانة وتواضع، وليس بالشعارات، فسيجد أنّ الإنقاذ ليس خيالاً. لكنّه يبدأ بإصلاح ما هو مكسور، وليس تدمير ما لا يزال يعمل.
* باحث مقيم في كلّية سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB) في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB).
