الحزب غير المُمانع: المخيّمات والحدود الشرقية أولاً

مدة القراءة 6 د

بات معلوماً كلّ ما حملته معها أخيراً الموفدة الأميركية مورغان أورتاغس، تصريحاً أو تلميحاً، حيال ما تطلبه إدارتها من السلطات اللبنانية. لم يكن الأهمّ تمسّكها بنزع سلاح “الحزب” ولا بجدول زمنيّ للوصول إليه في أسرع وقت ولا الإصلاحات البنيوية فحسب، بل طرح معادلة، ربّما هي المرّة الأولى التي يسمعها فيها لبنان من موفد أميركي، وتختصر عناوين المهمّة: إمّا الشراكة مع الولايات المتحدة بالشروط تلك، أو تركه لقدره. وهو أقرب ما يكون إلى تخيير بين الحياة والموت.

 

لأنّ ذلك كلّه صار معلوماً بمغادرة الموفدة الأميركية بيروت، وتوالي استنتاجات متباينة لدى السلطات اللبنانية، وكانت الأكثر إيجابية، وخارجها في تقويم نتائج الزيارة، فإنّ المهمّ الآخر غير المعلوم هو ما يريده “الحزب”. بالتأكيد ينظر إلى ضغوط واشنطن على أنّها مكمّلة للحرب الإسرائيلية التي لم تنتهِ تماماً، والمتوخّى منها أن تفضي إلى ما لم يُتَح إنجازه، وهو التخلّص النهائي من آلته العسكرية وتقويض كلّ نفوذ له داخل الدولة اللبنانية. ذلك ما يدور الخوض فيه في الدوائر المغلقة القريبة من “الحزب”، وتقديم روايته هو لما يقتضي أن يفعل أو لا يفعل، أو يقدّمه أو لا يقدر على تقديمه.

بات معلوماً كلّ ما حملته معها أخيراً الموفدة الأميركية مورغان أورتاغس، تصريحاً أو تلميحاً، حيال ما تطلبه إدارتها من السلطات اللبنانية

اقتناعات جديدة

ما يقال في الدوائر القريبة منه بضعة معطيات، منها:

1 ـ لم يعد يسعه تجاهل الحقائق الناجمة عن الحرب الإسرائيلية الأخيرة وانعكاساتها على الداخل اللبناني، مع بناء سلطات دستورية جديدة غير مألوفة أُرغم على التسليم بها. وخلافاً للمواقف المعلنة شبه اليومية التي تسير عكس التيّار، لم يعد في إمكانه إغفال انهيار آلته العسكرية، وخروجه نهائياً من المواجهة المباشرة مع إسرائيل ما إن أخلى جنوب نهر الليطاني إلى شماله، وانهيار نظام الرئيس بشار الأسد الذي يعني انقطاع صلته المباشرة بإيران عتاداً وعديداً وماليّاً، علاوة على فقدانه أمينه العامّ وقادته الأوائل، لا سيما منهم المؤسّسين. أكثر ما لا يسع “الحزب” تجاهل حقيقته الجديدة إخراج كلمة “مقاومة” على نحو قاطع من قاموس السياسة اللبنانية، بعدما تمكّن من جعل التسليم بها، وإن على مضض، مرادفاً للاستقرار الداخلي وعنواناً لفكّ الاشتباكات المذهبية.

للمرّة الأولى، منذ عام 2005، حين ناط “الحزب” بنفسه وراثة الدور السوري في لبنان بتفاصيله كلّها والاقتداء به في إحكام السيطرة على الدولة اللبنانية والشارع، يُسمَع رئيس للجمهورية، ينعى وظيفة المقاومة ما إن وافق الثنائي الشيعي على اتّفاق وقف النار، ويجرؤ أيضاً على ما لم يفعله أو يُرده أيّ من أسلافه بتأكيد انتهاء سلاح “الحزب” على أن لا سلاح غير شرعي بعد الآن ولا سلاح خارج الدولة، إضافة إلى استعادتها قرارَيْ السلم والحرب. ما بناه “الحزب” وإيران في أربعة عقود انهار في شهرين فقط بما هو مشروع وقدرات وأدوات. هذه هي الخلاصة الأقسى غير المحسوبة.

ليس خافياً تلمّس بعض الاقتناعات الجديدة لـ”الحزب” في خطب الأمين العامّ الشيخ نعيم قاسم

2 ـ ليس خافياً تلمّس بعض الاقتناعات الجديدة لـ”الحزب” في خطب الأمين العامّ الشيخ نعيم قاسم. يتكلّم الرجل في الوجهة غير المألوفة في الخطاب السياسي المعتاد في مرحلة أمينه العامّ الراحل السيّد حسن نصرالله. كلّما أطلّ نصرالله بخطاب عرف اللبنانيون سلفاً منهجيّته، وهو بدوره تعوّد تكرارها عليهم: موقف ودرس دينيّ أوّلاً، فكلام عن فلسطين وإسرائيل، يعرّج بعده على الأميركيين وإيران مروراً باليمن، ولا يوفّر دولاً عربية أحياناً، كي ينتهي بالكلام عن الداخل اللبناني في خاتمة المطاف. كان ذلك يحدث، سواء حيال أحداث تدور في فلسطين أو اليمن أو أيّ مكان يعنيه أو في معرض تأبين قيادي حزبيّ. لكنّه تقلّص أخيراً وقلّما ورد في خطاب قاسم ما إن أضحى الموضوع اللبناني محور خطبه. طبعاً دونما إغفال التعرّجات الأخرى. يبدأ بلبنان كي ينتهي دائماً بتعهّدات وطنية، فيما خطب نصرالله تُختم غالباً بالتهديد أو التنبيه والإنذار. باتت لبننة الخطاب فحوى ما يقوله ومحوره، خصوصاً في إسهابه في الكلام أكثر من ذي قبل عن الشراكة الوطنية والتوازن الداخلي والمساواة واتّفاق الدولة والتعلّق بالدولة والانتماء إليها، نائياً بنفسه، كما قبلاً، عن أيّ تهويل بفرض أمر واقع.

الطائفة المهدّدة

3 ـ على طرف نقيض من المواقف الإعلامية، تارة بالإصرار على التمسّك بالسلاح، وطوراً بمناقشة مصيره في حوار وطني يفترض أن لا يؤدّي إلى تجريده منه، ثمّة وظيفة جديدة يحاول “الحزب” تسويقها ما إن قضت أخيراً المقاومة. أضحى يقول إنّ سلاحه هو لحماية طائفته، مستشعراً أنّها الآن الطائفة الوحيدة المهدّدة في مصيرها تبعاً لتداعيات المرحلة المنصرمة وما تلاها. في الدوائر القريبة من “الحزب” يتقدّم تجريد المخيّمات الفلسطينية من سلاحها أيّ بحث في مصير سلاحه. بعض الحجج المسوقة أنّ المخيّمات، لاسيما منها عين الحلوة، فيها ما يزيد على 70 ألف مسلّح في وسعهم في أيّ وقت قطع طريق بيروت ـ الجنوب. لا يُستخدم السلاح فيها إلّا لاقتتال فصائلها وتنظيماتها، وفيها إرهابيون ومطلوبون، وهو ما يمكّنها من أن تشكّل خطراً على جوارها. ما لم يكن يقوله في ما مضى ويتوجّس منه، بات يراه الآن في واقع مختلف وهو أن لا وظيفة لسلاح المخيّمات لاسترجاع فلسطين ومنع التوطين.

4 ـ مطلع هذا الأسبوع وصلت إلى “الحزب”، بالتوازي مع أجهزة أمنيّة رسمية، معلومات أُحيط بها رئيس الجمهورية جوزف عون علماً. يتحدّث مصدر المعلومات، وسط تعتيم كامل عنها، عن ارتكاب مذابح طاولت علويّين في الساحل السوري، مقترنة بمعطيَين آخرَين: أوّلهما الإشاعات حول ما يجري في إدلب بتحوّلها سوق رقيق لبيع فتيات علويّات وشيعيات بما بين ثلاثة إلى سبعة آلاف دولار أميركي وهذا معطى غير مؤكّد ولا دلائل فعلية عليه، وثانيهما إقدام السلطة الجديدة في سوريا على شقّ طرق ترابيّة جديدة للتهريب عند الحدود الشرقية يتعاون فيها مهرّبون مع آخرين كانوا تعاونوا للغرض نفسه مع النظام السابق.

إقرأ أيضاً: لماذا تحاول السّلطة إخفاء تهديدات أورتاغوس؟

أدّت هذه الحجج إلى إقلاق “الحزب” وطائفته المنتشرة على التخوم الشرقية من السلطة الجديدة في سوريا، والخشية من تعرّضهما لانتقامها مجرّدين من حقّ الدفاع عن النفس، وفي الوقت نفسه ترتيب أولويّات حصر السلاح في يد الدولة، بحيث تمسي مناقشته مع “الحزب” آخر المراحل، بعد المخيّمات وضبط الحدود الشرقية.

 

مواضيع ذات صلة

“إخوان” الأردن والدّولة الوطنيّة وفلسطين

بين عقائديّات “الإخوان” مِن أصول فلسطينية، وبراغماتيّات ذوي الأصول الأردنية، واتّفاقات وادي عربة عام 1994، اضطربت علاقات “الإخوان” بالدولة الأردنيّة بعد استقرارٍ وتداخلٍ لحوالى نصف…

نائب للرّئيس الفلسطينيّ… بديل للإصلاح؟

أوفى الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس بوعد كان أطلقه أمام القمّة العربية الطارئة في القاهرة، في 4 آذار الماضي، يقضي بتعيين نائب لرئيس اللجنة التنفيذية لمنظّمة…

لبنان بين انعدام خبرة أورتاغوس… وانكفاء “الحزب”

يصعب الفصل بين الغارة الإسرائيلية على حيّ الجاموس بالضاحية الجنوبية لبيروت يوم الأحد، وبين انفجار مرفأ “رجائي” في بندر عباس الإيراني السبت. فبنيامين نتنياهو يلعب…

عباس بين معضلة الانقسام وتعقيدات التسوية

في فترة الاحتضار الطويل لياسر عرفات، وحتى قبل مرضه، كانَ محمود عباس هو المرشحَ التلقائيَّ لخلافته؛ ليس فقط لكونه أحدَ التاريخيين المؤسسين الذين بقوا على…