لم تبدأ جولة المفاوضات الأميركية – الإيرانية من عدم. جاءت تكملة لمسار طويل من الأخذ والردّ بين الطرفين على مرّ سنين بالواسطة أحياناً، ومباشرة في أحايين أخرى، مروراً بعواصم أوروبية وعربية وآسيوية. كسرت الجولة الأخيرة في عُمان الجليد ولم تُزِل العداء والشكوك. كانت إعلان نيّات في انتظار تواليها نهاية هذا الأسبوع. كلا المفاوضَين كما الوسيط العُمانيّ أشاعوا انطباعات إيجابية بما لا يوحي أنّ أيّاً منهما تنازل للآخر. أفضل المتوقّع بعد التحوّلات الأخيرة في المنطقة أن لا تخرج منها الجمهورية الإسلامية أقوى اللّاعبين.
طبعت المفاوضات الأميركية – الإيرانية على الدوام سمة الفرص الضائعة. قلّما دخلها الجانبان في التوقيت المناسب. إمّا الأميركي جاهز والإيراني غير جاهز، أو العكس. على مرّ العقود الأخيرة لم يكن بين الدولتين سوى الشكوك والالتباس والافتقار إلى الثقة، فكانا يخوضان الحروب بالواسطة، وما خلا تعاون طهران مع واشنطن في الحملة العسكرية على أفغانستان لإسقاط “طالبان”، والهديّة الأميركية لإيران بإسقاط عدوّها الرئيس العراقي صدّام حسين، وفضيحة “إيران كونترا”، فهما في مواجهة دائمة. لم تتكرّر السوابق تلك وهما يتنافسان على تقاسم النفوذ في المنطقة. الحوار الحالي مختلف عن الجولات السابقة.
التّفاوض بالعصا الغليظة
لم تعد طهران قويّة بالمقدار الذي اعتادت الظهور به معوّلةً على نفوذها الإقليمي، ولا واشنطن مستعجلة الحرب. خسرت الأولى “حماس” في غزّة و”الحزب” في لبنان وبشّار الأسد في سوريا وتوشك أن تخسر “الحشد الشعبي” في العراق، وأخرجت أخيراً خبراءها العسكريين من اليمن.
بدوره الرئيس الأميركي دونالد ترامب يفاوض بالعصا الغليظة. يهدّد بالحرب من دون أن يخوضها كي يصل إلى حيث وعد في حملته الانتخابية: انتهاء الحروب. يريد مع طهران صفقة بشروطه أو بأحسن (بأفضل) الشروط وإن لوّح بالتخويف والمغامرة العسكرية. لذا تبدو خيارات التفاوض الجديد بالنسبة إلى الأميركيين في صيغة رابح ـ خاسر، فيما يعوّل الإيرانيون على ما اعتادوه على الدوام: رابح ـ رابح.
اقترح عبداللهيان إنشاء خطّ تواصل مباشر من خلال إرسال الوزير بلينكن مباشرة رسالة إلى نظيره الإيراني تكون مبادرة حسن نيّة
معضلة الإيرانيين جهل عدد كبير منهم العقل الأميركي وتشغيله والسياسات الملازمة له. مراراً سمعها الوزير السابق للخارجية عبدالله بوحبيب من نظيره الإيراني الراحل حسين أمير عبداللهيان في خمسة اجتماعات عقداها بين عامَي 2021 و2023، دارت بمعظمها حول سؤال واحد: ماذا يريد الأميركيون من إيران؟ وكيف يفكّرون؟ وما يمكنهم أن يفعلوا؟
في اجتماعهما الأوّل في 7 تشرين الأوّل 2021 ورد في محضره الآتي: “سألته عمّا آلت إليه جهود المفاوضات مع الأميركيين على البرنامج النووي، فردّ بالإيجاب أنّها تنعقد في فيينا، قبل أن يضيف أنّ حكومته لن تتفاوض مباشرة مع الأميركيين بل عبر وسيط أوروبي يتنقّل بين الجانبين. قلت: إذاً لا اتّفاق، ويبدو أنّكم لا تريدونه. قال: بلى نريد اتّفاقاً. قلت: إن لم يجرِ حوار مباشر مع الأميركيين فلن يُعقد اتّفاق شامل. قال: لدينا مآخذ كثيرة على الأميركيين، ومنها أن لا يُصار إلى إلغاء أيّ اتّفاق نكون أنجزناه على غرار ما فعل ترامب عام 2018. نريد اتّفاقاً لا يُلغى”.
جاء في المحضر أيضاً: “قلت هذا غير ممكن. سأل: كيف؟ قلت: كي يصبح الاتّفاق قانوناً يحتاج إلى موافقة 60 عضواً في مجلس الشيوخ فيتكرّس قانوناً. ما فعله باراك أوباما أنّه تجنّب الذهاب به إلى مجلس الشيوخ لأنّ أكثريّة الأعضاء كانت تعارضه، ولذلك لم يعرضه عليه، فأصدر الاتّفاق بقرار رئاسيّ، وهذا ما يتيح لأيّ رئيس آخر إلغاءه بقرار رئاسي مماثل. استغرب ما يسمع كأنّها المرّة الأولى التي يسمع فيها بالآليّة الدستورية الأميركية، مع أنّها لم تغِب عن سلفه محمد جواد ظريف المطّلع عليها، وهو الذي عاش سنين طويلة في الولايات المتّحدة مذ كان في السابعة عشرة من عمره. استنتاجي أنّ انقطاع التواصل بين النظراء في وزارتَيْ الخارجية في البلدين يجعل الإيرانيين يجهلون الكثير من القواعد والآليّات الدستورية والأصول الأميركية. لم يُتح لعبداللهيان الاطّلاع عليها من سلفه على الأقلّ”.
لم تعد طهران قويّة بالمقدار الذي اعتادت الظهور به معوّلةً على نفوذها الإقليمي، ولا واشنطن مستعجلة الحرب
دور روبرت مالي السّلبيّ
في الاجتماع الرابع في 26 نيسان 2023 قال عبداللهيان تبعاً للمحضر:
“- أوّلاً، لعب الموفد الأميركي الخاصّ روبرت مالي دوراً سلبيّاً في تعليقاته على الاحتجاجات الداخلية الإيرانية على أثر مقتل مهسا أميني (أيلول 2022). تحدّث عن فرق بين ما قاله السيّد مالي من استهزاء وما قاله وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي اتّخذ موقفاً متوازناً نسبيّاً. لذلك نفضّل أن نتواصل مع غيره.
– ثانياً، اتّفقنا مع الأميركيين على تبادل السجناء وفق صيغة أربعة إيرانيين في مقابل أربعة أميركيين. أفرجت إيران عن أحد الأميركيين الموقوفين عندها بلا مقابل ولأسباب صحّية وإنسانية. بدلاً من أن تتلقّف الولايات المتّحدة هذه المبادرة الإنسانية طالبت بتعديل الاتّفاق الأساسي لتطرح صيغة جديدة هي ثلاثة أميركيين في مقابل ثلاثة إيرانيين، وهذا ما رفضناه.
– ثالثاً، نفى محدّثي أن تكون إيران زوّدت روسيا مسيّرات وفق الاتّهام الأميركي ـ الأوروبي. هذا الموضوع هو أحد أهمّ مآخذ أوروبا على إيران، وهي تؤكّد تزويد روسيا مسيّرات. وطلبنا من الأوكرانيين تقديم البراهين على صحّة هذه الادّعاءات، ولا نزال إلى الآن ننتظر الجواب.
– رابعاً، اقترح عبداللهيان إنشاء خطّ تواصل مباشر من خلال إرسال الوزير بلينكن مباشرة رسالة إلى نظيره الإيراني تكون مبادرة حسن نيّة، وستتلقّفها الجمهورية الإسلامية وتكون مستعدّة للتجاوب معها.
– خامساً، طلب رفع الولايات المتّحدة حجزها لستّة مليارات دولار في مصارف كوريا الجنوبية.
– سادساً، إيران مستعدّة للبحث في تعديل الاتّفاق النووي الذي اتُّفق عليه عام 2015″.
تناول الاجتماع الصدمة التي أحدثها “طوفان الأقصى”. قال عبداللهيان: “لم تكن إيران على علم بما حدث. حماس أصدقاؤنا. وكذلك “الحزب”
بوحبيب وسيط
في المحضر نفسه: “أبلغ إليّ رغبته في اضطلاعي بدور وسيط لتقريب وجهات النظر، قائلاً إنّ زيارتي لطهران تساعد على ذلك كي يسمع المسؤولون هناك منّي مباشرة معطيات عن التفكير الأميركي”.
كلامه عن الرسالة نقله بوحبيب إلى السفيرة في بيروت دوروثي شيا. وجد أنّ “في مصلحة لبنان تقريب وجهات النظر ونقل الرسائل بين الطرفين لأنّ التواصل بين قوّة دولية وأخرى إقليمية ينعكس خيراً على لبنان، والصراع بينهما يحوّل لبنان ساحة صراع يدفع ثمنها”.
بعد “طوفان الأقصى”
بعد أقلّ من أسبوع على “طوفان الأقصى” حضر عبداللهيان إلى بيروت في 13 تشرين الأوّل 2023. سأله بوحبيب عمّا جرى مع الأميركيّين، فأكّد أنّ الاجتماع عُقد في عاصمة دولة عمان، مسقط، وأنّهم “كانوا مرتاحين إلى استبدال روبرت مالي ببريت ماكغورك (مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض)، وذلك أمر مهمّ بالنسبة إلى إيران. اتّفقنا مع ماكغورك على تبادل ستّة أسرى من كلّ طرف، ونقل الأموال المحتجزة في كوريا الجنوبية إلى قطر على أن تُستخدم لشؤون إنسانية وغذائية وصحّية. يبقى بند أساسيّ واحد هو البرنامج النووي. كان يجب أن نجتمع في 10 تشرين الأوّل، إلّا أنّ طوفان الأقصى عطّله”.
تناول الاجتماع الصدمة التي أحدثها “طوفان الأقصى”. قال عبداللهيان: “لم تكن إيران على علم بما حدث. حماس أصدقاؤنا. وكذلك “الحزب”. هم الذين يتّخذون القرار ونحن ندعمهم. تدخُّل “الحزب” في الحرب كان قراره هو، لكنّنا دعمناه كما دعمنا حماس. ما يهمّنا الآن هو وقف النار”.
بين واشنطن وطهران الفرص ضائعة، ونادراً ما تكونان معاً جاهزتين للتفاوض
الموقف نفسه أعاد تأكيده على هامش القمّة العربية – الإسلامية في الرياض. خلالها رافق بوحبيب الرئيس نجيب ميقاتي إلى اجتماع مع الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي الذي قال: “نريد وقفاً فوريّاً للنار في غزّة ينعكس على الجبهة اللبنانية. نحن لا نصدر أوامر إلى “الحزب” ولا إلى حماس والحوثيين. هم مستقلّون ويقرّرون ما يفعلون ونحن إلى جانبهم لأنّهم حلفاؤنا وأصدقاؤنا. ما يحصل معنا ومع حلفائنا يحصل بين أميركا وإسرائيل التي تقرّر ما تفعل وأميركا تدعمها ولا تقرّر عنها”.
لقاء أخير في جنيف
التقى بوحبيب عبداللهيان للمرّة الأخيرة في جنيف في 14 كانون الأوّل 2023 خلال انعقاد مؤتمرين شارك فيهما لبنان، وهما الذكرى الـ75 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمنتدى العالمي للّاجئين. في خلوتهما التي استمرّت 55 دقيقة أخبره الوزير الإيراني عن زيارته للسعودية واجتماعه بوليّ العهد الأمير محمد بن سلمان وسؤاله له عمّن تؤيّد المملكة في الانتخابات الأميركية، فأجابه أنّها تساند في الغالب مرشّح الحزب الجمهوري، “لكنّنا نناقش تأييد الرئيس جو بايدن هذه الدورة”. ثمّ وجّه عبداللهيان كلامه إلى بوحبيب مشدّداً عليه نقل هذا الموقف إلى الأميركيين: “نحن أيضاً مستعدّون لمساعدة بايدن في هذه الانتخابات، وإيران مستعدّة لإعادة النظر في اتّفاق عام 2015 لبرنامجها النووي والوصول إلى آخر يساعد الرئيس بايدن ولا يضرّ بمصالحها”.
اجتمع بوحبيب مع بريت ماكغورك في البيت الأبيض في أوائل كانون الثاني 2024، وأطلعه على ما أسرّ إليه عبداللهيان عن الموقف السعودي من الانتخابات الأميركية والاستعداد الإيراني لإعادة النظر في الاتّفاق النووي.
تريد إيران اتّفاقاً مع الأميركيين غير قابل للإلغاء كلّما تغيّر رئيس
ماذا يريد الإيرانيّون؟
خلال حواراته مع نظيره الإيراني تكوّنت لدى بوحبيب بضعة انطباعات:
“1 ـ يرغب الإيرانيون في الانفتاح على العالم الغربي بعد نجاح التوصّل إلى اتّفاق مع السعودية، لذلك يهمّهم إعادة التواصل مع الأميركيين.
2 ـ فوائد محتملة جمّة للأميركيين من خلال إعادة التواصل، منها أنّ إيران بلد كبير ومؤثّر ولديه دور مهمّ في المنطقة، وسبق أن ربطتهما علاقات وطيدة قبل الثورة الإسلامية في عهد الشاه وتحالف استراتيجي عسكري ـ سياسي مكّنها من أن تكون مظلّة عسكرية قويّة للأميركيين في الخليج العربي.
إقرأ أيضاً: منتدى أنطاليا: “الغايب يرفع إيدو”
3 ـ إيران وإسرائيل لا ترغبان في حلّ الدولتين للقضيّة الفلسطينية، كلٌّ لأسباب مختلفة. الأولى تريد كلّ فلسطين وزوال كلّ إسرائيل، والثانية تريد بدورها كلّ فلسطين وإزالة كلّ ما يتّصل بالفلسطينيين. لكنّ ثمّة احتمالاً أن يعيد بنيامين نتنياهو النظر في موقفه ويقبل بحلّ الدولتين إذا أوجدت أميركا وإيران إطاراً لتنظيم الخلاف بينهما ينعكس إيجاباً على نظرة دول المنطقة إلى الدور الأميركي في الشرق الأوسط”.