الصواريخ التي أُطلقت على مستوطنة المطلّة بفلسطين المحتلّة من شمال الليطاني وليس من جنوبه عادت لإثارة كلّ المواجع، وليس الردّ الإسرائيلي العاتي فقط. لا بدّ أن تعمد الدولة اللبنانية إلى نزع سلاح “الحزب” بالتفاوض أو بأيّ سبيل آخر. فإمّا الدولة وإمّا الميليشيا. خطر الميليشيا ليس في الجنوب فقط، بل وفي الشرق على الحدود مع سورية. فإمّا دولة واحدة وجيش واحد، أو لا دولة حقيقية ولا جيش، كما في السنوات الثلاثين الماضية.
قال أحد مطلقي النكات في الإعلام إنّ الصواريخ التي أُطلقت على المطلّة ما كانت ردّاً على الخروقات الإسرائيلية، بل هي ردٌّ على رئيس الحكومة نوّاف سلام الذي هدَّد المسلّحين بالويل والثبور، وقال إنّهم صاروا من الماضي الغابر! بالطبع ردَّ عليه المفتي أحمد قبلان، بيد أنّ الردّ الصاروخي كان أبلغ.
طوال أكثر من عقدين، كانت الضربات الصاروخية الجانبية تحدث في فترات الهدنة أو الاضطراب غير الحادّ. وكان يقال إنّها تمّت بآليّات بدائية، وإنّ التي قامت بها هي بعض الجهات الفلسطينية، ولا حرج في تسميتها إرهابية كما حدث أخيراً. والإرهابي للإفادة والتنبيه لا يُطلق إلّا على الفلسطيني أو اللبناني السنّي. ولن يتغيّر هذا الخطاب حتّى لو صار الثالوث أو المثلّث من الماضي، كما ذهب إلى ذلك رئيس الحكومة.
الصواريخ التي أُطلقت على مستوطنة المطلّة بفلسطين المحتلّة من شمال الليطاني وليس من جنوبه عادت لإثارة كلّ المواجع، وليس الردّ الإسرائيلي العاتي فقط
شرف الانفراد بالمقاومة يضاهيه شرف الاستهداف والاستشهاد. وهو الأمر الذي حدث بعد الصواريخ في الهجمات الإسرائيلية على سائر النواحي في لبنان. لكن، ومن باب المفارقة، أنّ الصواريخ البدائية أُطلقت هذه المرّة من شمال الليطاني وليس من جنوبه، وأنّها كانت ضدّ المستوطنات لا لمزارع شبعا كما كان يحدث عادةً في الصواريخ الجانبية.
“الحزب” مسؤول حتماً
هكذا يفتح هذا التطوّر على عدّة احتمالات. فمطلقو الصواريخ لم يعتادوا على الجيش والقوات الدولية أو هكذا يستطيعون القول. لأنّهم بخلاف ما نصّت عليه القرارات الدولية الـ1559 و1680 و1701 لا يعترفون بسريان وقف النار إلّا في جنوب الليطاني، بينما تقول القرارات الدولية بنزع السلاح من كلّ لبنان. وقبل أيّام من تصريحات رئيس الحكومة الحاسمة، ذكر وزيران (أو وزير ووزيرة!) أنّه لا يمكن نزع سلاح “الحزب” بالقوّة. وما كان ذلك رأي وزير الخارجية ووزير الدفاع. ولذلك صرّح رئيس الحكومة بما صرّح به.
رئيس الجمهورية في خطاب القسم المشهور ذكر الاستراتيجية الدفاعية، التي تعني العودة للتفاوض للمرّة الثالثة أو الرابعة على تسليم السلاح للجيش اللبناني بصيغةٍ معيّنة. وفي حين فشلت المفاوضات السابقة التي كانت قبل الهزيمة بسنواتٍ، ما بدأت المفاوضات الجديدة ولا أحد يدري متى تبدأ، وبخاصّةٍ مع توالي التصريحات عن استمرار المقاومة، وأنّ الانسحاب، والعهد للدولة والجيش بالدفاع، إنّما كان في جنوب الليطاني فقط!
حتّى لو لم يكن “الحزب” هو الذي أطلق الصواريخ وإنّما أطلقتها جهات إرهابية (!)، فإنّ المسؤولية تقع على عاتق “الحزب”، إذ لا يستطيع أحد نصب مواقع وصواريخ دون معرفة “الحزب”، وبخاصّة في شمال الليطاني. وهو الأمر الذي دفع الرئيس نبيه بري للقول إنّ مطلقي الصواريخ إنّما يعملون لمصلحة إسرائيل. العدوّ الإسرائيلي ما يزال يتمركز على الحدود في مواقع خمسة أو سبعة، والتفاوض الجاري كلّه من أجل دفعه للانسحاب باعتبار أنّ الأمن صار مستتبّاً، فإذا أُطلقت صواريخ على المستوطنات، فكيف يُقنع لبنان الأميركيين والإسرائيليين والجهات الدولية أنّ الأمن مستتبّ، وأنّ الجيش والقوّات الدولية يقومان بمهامِّهما؟!
حتّى لو لم يكن “الحزب” هو الذي أطلق الصواريخ وإنّما أطلقتها جهات إرهابية (!)، فإنّ المسؤولية تقع على عاتق “الحزب”
بعد سنواتٍ وسنواتٍ من الجدالات والتعالي والانتهاكات لاستقرار الجنوب وسيادة لبنان ووقايته من الغزو، ما يزال الملفّ على حاله في الصراع بين السيادة اللبنانية ومقاومة “الحزب” وسلاحه، وما غيّرت منه الهزيمة التي نزلت بـ”الحزب” نتيجة خوضه لحرب الإسناد التي ما كان لها مبرّر، ولا جاءت بأيّ فائدة. لكنّ الوضع الآن، بصواريخ وبدون صواريخ، ما عاد قصراً على الجنوب، بل صار على سيادة لبنان وأمنه، وهل يبقى فيه جيش وميليشيا، ومناطق للجيش وأُخرى للميليشيا. فإذا حدث الخراب نتيجة أفعال الميليشيا وضربات إسرائيل، يقال إنّ على الدولة اللبنانية إعادة الإعمار، دون أن تكون هناك ضمانات أن لا تعود الميليشيا فتتسبّب بالحرب والخراب. لا بدّ من نزع سلاح “الحزب”، إن كان يراد بقاء الدولة اللبنانية بالفعل، وأن يبقى للبنان إخوة وأصدقاء يحرصون على أمنه وحياة أبنائه.
عليهم أن يتعوّدوا
لننظر إلى ناحيةٍ أُخرى لا تقلّ خطورةً هي الحدود اللبنانية – السورية في الشرق. فقد جرت اشتباكات من حول القرى اللبنانية – السورية خلال أسبوعين، وسقط قتلى ومصابون من الطرفين، وبدأت الوقائع بذبح ثلاثةٍ من قوات الأمن السوري بداخل الأراضي السورية. دخل “الحزب” إلى سورية عام 2012 وبقي وتعاظم نفوذه واحتلّ مناطق وأقام قواعد وتنافس مع ماهر الأسد في تجارات الكبتاغون، وكلّ ذلك حتّى أواخر عام 2024. وما تزال لـ”الحزب” مخازن سلاح بسورية، وله علاقات ببقايا النظام الأسدي الذين تمرّدوا قبل شهرٍ وأمدَّهم “الحزب” بالسلاح وربّما بالعناصر. بعدما أخمد السوريون الفتنة، تقدّموا نحو الحدود مع لبنان، وأرادوا إخراج “الحزب” منها. وبالطبع تصاعد الصراخ من العشائر المساكين (!) الذين يمارسون التهريب بقوّة السلاح وحسب.
إقرأ أيضاً: لبنان يماطل بتشكيل لجان التطبيع.. وإسرائيل “تذكّره” بالنّار
حين تفاقمت الاشتباكات بالسلاح الثقيل تدخّل الجيش واتّفق مع الجيش السوري على إخلاء القرى من المسلّحين. فانزعجت “العشائر” الوهميّة وصرخت في وجه الجيش. لم يتعوّد مسلّحو “الحزب” وحلفاؤهم الانضباط في جنوب الليطاني وشماله، ولم يتعوّدوا الانضباط في الحدود مع سورية. من قبل كان الجيش معهم أو يغضّ الطرف، لكن الآن ما عاد يستطيع ذلك. ومع ذلك لم تقنع إسرائيل أنّ الجيش نزع سلاح القرى على الحدود، فقامت من جانبها بغارة على “حوش السيّد علي”، وهي القرية المنقسمة بين لبنان وسورية، والتي كانت فيها إلى جانب القصير القواعد العسكرية ومصانع الكبتاغون، أوَليس الكبتاغون مفيداً في “تخدير” جنود العدوّ الصهيوني؟
هو سلاح “الحزب”، وهو تنظيم الميليشيا في شرق لبنان وغربه وجنوبه. وأعدى أعدائه ليس إسرائيل، بل الدولة اللبنانية التي لم يعتَد على سطوتها منذ اتّفاق الطائف عام 1990. ينبغي لـ”الحزب” أن يتعوّد، لكنّ الذين يكون عليهم أن يتعوّدوا أكثر الجيش اللبناني وقوى الأمن وموظّفو الدولة الكبار ووزراؤها، وهم الذين اعتادوا الخضوع طوال ثلاثة عقودٍ وأكثر.
لمتابعة الكاتب على X: