تدخل الأزمة المستمرّة بين الولايات المتحدة وإيران بشأن البرنامج النووي الإيراني مرحلة أكثر خطورة، مع ارتفاع احتمالات اندلاع مواجهة عسكرية مفتوحة بين الطرفين، وسط تزايد نبرة التهديدات العسكرية، وهو ما يثير المخاوف من اندلاع حرب شاملة قد تجرّ منطقة الشرق الأوسط إلى صراع مدمّر.
على الرغم من المبادرات التي أطلقتها واشنطن في الأسابيع الأخيرة، لا سيما رسالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المرشد الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي، فإنّ طهران لا تزال ترفض التفاوض في ظلّ الشروط الأميركية، لكنّها لم تقفل الباب على إمكان البدء بالتفاوض.
تحذيرات أميركيّة صريحة
في 7 آذار 2025، وجّه ترامب رسالة شخصية إلى المرشد الإيراني خامنئي، يقترح فيها بدء مفاوضات مباشرة للتوصّل إلى اتّفاق نووي جديد، مانحاً طهران مهلة شهرين قبل اللجوء إلى “طرق أخرى لحلّ النزاع”. أكّدت الرسالة، التي تمّ الكشف عن تفاصيلها لاحقاً، أنّ ترامب لا يرغب في مواجهة عسكرية، بل يسعى إلى اتّفاق “يضمن عدم حصول إيران على سلاح نووي”.
على الرغم من أنّ الرسالة حملت لهجة دبلوماسية، فإنّها تضمّنت تحذيرات صريحة، إذ حذّرت واشنطن من أنّ استمرار إيران في تطوير برنامجها النووي قد يقود إلى مواجهة عسكرية لا مفرّ منها. اعتبر خامنئي الرسالة محاولةً لخداع الرأي العامّ الدولي وإظهار إيران رافضةً للسلام، مؤكّداً أنّ بلاده “لن تخضع للتهديدات”.
كشف المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، المقرّب من الرئيس ترامب والمتوقّع أن يكون هو المفاوض مع إيران في حال تمّ التوصّل إلى صيغة للتفاوض، عن رؤية الإدارة الأميركية تجاه الأزمة الحالية. وفي مقابلة مع الصحافي تاكر كارلسون المقرّب أيضاً من ترامب، قال ويتكوف إنّ رئيسه “يحاول بناء الثقة مع إيران” لتجنّب صراع مسلّح. أضاف: “الرئيس أوضح في رسالته أنّه رجل يسعى للسلام… لا يوجد سبب للحلّ العسكري إذا تمكّنّا من التحدّث”.
توعّدت إيران بالردّ على أيّ عدوان عسكري بإغلاق مضيق هرمز، واستهداف القواعد الأميركية في الخليج
أشار ويتكوف إلى أنّ إدارة ترامب لا تزال تستخدم قنوات خلفيّة مع طهران، عبر وسطاء إقليميين ودوليين، في محاولة لتجنّب التصعيد. لكنّه شدّد في الوقت ذاته، على الرغم من عدم وصفه لتصريحاته بأنّها تهديدات لإيران، على أنّ الولايات المتحدة تحتفظ بـ”اليد العليا عسكريّاً”، محذّراً من أنّ رفض إيران التفاوض قد يؤدّي إلى اتّخاذ قرارات صعبة.
لطالما امتنعت واشنطن عن شنّ ضربات عسكرية على إيران، على الرغم من التوتّرات التي شهدتها العلاقات الثنائية في العقود الماضية. الإدارات الأميركية المتعاقبة، من جورج بوش إلى باراك أوباما ثمّ ترامب، تجنّبت الخيار العسكري بسبب مخاوف من اندلاع حرب إقليمية واسعة النطاق، وصعوبة استهداف المنشآت النووية الإيرانية التي تمّ توزيعها في مواقع محصّنة وعميقة، بالإضافة إلى القلق من تداعيات ذلك على أمن القوات الأميركية في المنطقة وعلى استقرار أسواق الطاقة العالمية.
لا أرضيّة مشتركة بين واشنطن وطهران
لكنّ المشهد تغيّر اليوم. النقاط المشتركة التي كانت تربط بين واشنطن وطهران اختفت. بعد هجمات 11 أيلول، تعاون الطرفان بصورة غير مباشرة في الحرب ضدّ طالبان والقاعدة. لاحقاً، تلاقت مصالحهما خلال المعركة ضدّ تنظيم داعش في العراق وسوريا. وحتى سقوط نظام صدّام حسين، عدوّ إيران اللدود، كان يمثّل تقاطعاً في المصالح.
لم تعد توجد الآن أيّ أرضيّة مشتركة. تواصل إيران دعم وكلائها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، الذين يستهدفون المصالح الأميركية وحلفاء واشنطن في المنطقة، من إسرائيل إلى السعودية. وفي ظلّ التصعيد الأخير، ترى واشنطن أنّ طهران باتت أكثر جرأة، بينما تعتقد إيران أنّ الولايات المتحدة مشتّتة بأزماتها العالمية الأخرى.
تتزايد المؤشّرات إلى أنّ الخيار العسكري بات على الطاولة، سواء من قبل الولايات المتحدة أو من جانب إسرائيل، التي ترى في البرنامج النووي الإيراني تهديداً وجوديّاً لا يمكن التهاون معه. أكّدت مصادر عسكرية إسرائيلية أنّ الخطط لشنّ ضربة جوّية على المنشآت النووية الإيرانية جاهزة ويتمّ تحديثها باستمرار.
المشهد تغيّر اليوم. النقاط المشتركة التي كانت تربط بين واشنطن وطهران اختفت. بعد هجمات 11 أيلول، تعاون الطرفان بصورة غير مباشرة
صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أخيراً بأنّ إسرائيل “لن تسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي”، مشدّداً على أنّه “إذا لم يتحرّك العالم، فستتحرّك إسرائيل”. وعلى الرغم من التحدّيات اللوجستية التي قد تواجه تل أبيب في استهداف المنشآت الإيرانية المحصّنة، فإنّ قادة إسرائيل يؤكّدون أنّهم مستعدّون للتحرّك منفردين إذا لزم الأمر.
في المقابل، توعّدت إيران بالردّ على أيّ عدوان عسكري بإغلاق مضيق هرمز، واستهداف القواعد الأميركية في الخليج، بالإضافة إلى تحريك وكلائها في المنطقة لاستهداف المصالح الأميركية والإسرائيلية.
يبقي انعدام الثقة بين الطرفين شبح الحرب مخيّماً على المشهد، مع احتمال اندلاع صراع يمكن أن تكون له تداعيات كارثية على المنطقة والعالم. لذلك نشطت دبلوماسية عدد من دول الخليج لإحياء تقنيّة خلفيّة لتجنّب الحرب، لأنّها الدول الأكثر تأثّراً في حال اندلعت مواجهة واسعة بين طهران والولايات المتحدة وإسرائيل.
أسابيع حاسمة
ستكون الأسابيع المقبلة حاسمة، فإمّا تثمر الجهود الدبلوماسية اتّفاقاً يوقف الانزلاق نحو الهاوية، أو يشهد الشرق الأوسط فصلاً جديداً من النزاعات المسلّحة قد يكون الأعنف منذ عقود.
ترى واشنطن أنّ طهران باتت أكثر جرأة، بينما تعتقد إيران أنّ الولايات المتحدة مشتّتة بأزماتها العالمية الأخرى
يرى ترامب أنّ إرث باراك أوباما، لا سيما الاتّفاق النووي لعام 2015، كان فاشلاً وضعيفاً، ويريد اتّفاقاً جديداً بشروط أكثر تشدّداً، ليظهر أنّه الرئيس الذي جعل إيران تتراجع، على عكس ما فعل سلفه. فالسلام، بنظر ترامب، هو انتصار شخصيّ وتاريخي، وليس نهايةً لصراع وحسب. لا يريد أن يكون الرئيس الذي أصبحت إيران دولة نووية عسكرية أثناء ولايته.
التصعيد بالنسبة لترامب أداة تفاوض وليس غاية. يرفع السقف ويزيد التهديد ليُرغم إيران على التفاوض بشروطه. لكنّ هذا الأسلوب يحمل دائماً خطر سوء الفهم والتصعيد غير المحسوب، خصوصاً إذا رفضت إيران الرضوخ واستمرّت بالاستراتيجيات التقليدية القائمة على عامل الوقت.
إقرأ أيضاً: “الرّئيس المجنون” يحيّر العالم
ستلعب شخصية ترامب دوراً كبيراً في تحديد مستقبل النزاع. فهو يميل إلى السلام مع إيران، لكنّ السلام الذي يحقّق له مكاسب سياسية وشخصية. لا يريد حرباً شاملة، لكنّه مستعدّ لاستخدام القوّة إذا رأى أنّ ذلك سيجلب طهران إلى طاولة المفاوضات بالشروط الأميركية. لذا السلام عند ترامب ليس خياراً أخلاقيّاً، بل وسيلة لتحقيق هدف استراتيجي.
لمتابعة الكاتب على X: