أثار اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضمّ كندا إلى الولايات المتحدة، لتصبح الولاية الثانية والخمسين، وشراء جزيرة غرينلاند من الدانمارك، علامات استفهام حول مبدأ الشراء والضمّ في تكوين الدول. الواقع أنّ الولايات المتحدة قامت على هذا الأساس منذ بداياتها الأولى. وهكذا سيطرت مثلاً على تكساس ولويزيانا ونيومكسيكو.
أهمّ وأبرز صفقة شراء كانت ولاية آلاسكا التي اشترتها من روسيا.
حدث ذلك يوم الجمعة 29 آذار من عام 1867، حين عرض السفير الروسي في واشنطن إدوارد دي ستويكل على وزير الخارجية الأميركي هنري سيوارد رغبة القيصر ألكسندر الثاني ببيع آلاسكا. قدّم السفير الروسي العرض بعد حفل عشاء. وافق الوزير الأميركي على الفور. رحّب السفير بالموافقة وطلب إعداد الأوراق اللازمة. في صباح اليوم التالي ردّ الوزير الأميركي: “لماذا الانتظار إلى الغد”؟
عند منتصف الليل عُقد اجتماع عمل في مقرّ وزارة الخارجية لإعداد اتفاقية البيع والشراء. وفي الساعة الرابعة من صباح اليوم التالي السبت 30 آذار، وقّع الوزير الأميركي والسفير الروسي بالأحرف الأولى على الاتفاقية، ولم يكن يعرف ذلك في واشنطن سوى الرئيس الأميركي أندرو جونسون وأعضاء حكومته. أمّا القيصر الروسي (وحكومته) فلم يصله نبأ التوقيع إلا بعد أيّام عدّة.
حدّدت الاتفاقية ثمن آلاسكا (586,400 ميل مربّع، أي خمس مساحة الولايات المتحدة) بقيمة 7,2 ملايين دولار (حوالي 11 مليون روبل)، أي بمعدّل 2 سنت للهكتار.
في بداية المفاوضات عرض الوزير الأميركي خمسة ملايين دولار فقط ثمناً لآلاسكا. لم يقُل السفير الروسي شيئاً. قال الوزير: “نستطيع أن ندفع 5.5 ملايين”. ظلّ السفير صامتاً. استمرّ الوزير في رفع المبلغ واستمرّ السفير في الصمت حتى وصل العرض إلى 7.2 ملايين دولار.. فتمّت الموافقة.
أهمّ وأبرز صفقة شراء كانت ولاية آلاسكا التي اشترتها من روسيا
لم يكن السفير الروسي يساوم. كانت تعليماته تقضي ببيع آلاسكا بخمسة ملايين دولار، لكن بشرط أن تعلن الولايات المتحدة أنّها هي التي طلبت شراء آلاسكا من روسيا، حتى لا تبدو روسيا وكأنّها تعرض ممتلكاتها للبيع، فيزيد استضعافها. وافقت الولايات المتحدة على هذا الشرط من دون تردّد.
اتفاقية البيع التي تأخّر مجلس النواب الأميركي في إقرارها مدّة سنة تقريباً، أقرّها مجلس الشيوخ في التاسع من نيسان من عام 1867، أي بعد عشرة أيام من التوقيع الأوّليّ عليها.
شارع روسيا وشارع أميركا
في 18 تشرين الأول 1867 احتفل جنود روس وأميركيون في بلدة سيتكا في آلاسكا بإنزال العلم الروسي ورفع العلم الأميركي. وفي قلب البلدة حيث يتقاطع الشارعان الرئيسيان فيها، سُميّ أحد الشارعين باسم روسيا، والثاني باسم أميركا. أصبحت البلدة اليوم مدينة كبيرة. ولا يزال الشارعان يحملان اسميهما الرمزيَّين.
لم تقُم حكومة محلّية في آلاسكا إلّا في عام 1884، أي بعد أربعة أعوام على اكتشاف الذهب وبدء العمليات التبشيرية الإنجيلية فيها. ولقد مُنحت آلاسكا في عام 1906 العضوية في الكونغرس من دون حقّ الاقتراع. أمّا عضويتها الكاملة بما هي ولاية أميركية، الولاية الـ 49، فلم تكتسبها إلا في كانون الثاني 1959. وكان الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور قد وقّع في تموز 1958 على قانون عضويّتها.
أثار اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضمّ كندا إلى الولايات المتحدة، لتصبح الولاية الثانية والخمسين
اتُّخذ قرار روسيا بيع آلاسكا في عام 1857، أي بعد توقيع روسيا على اتفاقية باريس التي كرّست هزيمتها في حرب القرم. جاءت الفكرة من الدوق قسطنطين، شقيق القيصر، وعرضها على مستشاره وزير الخارجية في ذلك الوقت غورشاكوف. غير أنّ الوزير قرّر تأخير الأمر لتجنّب إثارة بريطانيا التي خرجت من حرب القرم منتصرة. جاء الوقت المناسب بعد خروج أميركا من الحرب الأهلية، وبعد انتهاء الامتياز الثالث للشركة الروسية – الأميركية التي كانت تستثمر آلاسكا بتفويض من حكومة القيصر، في عام 1861.
عندما بادرت روسيا إلى بيع ولاية آلاسكا، أقدمت على ذلك مضطرّة، ليس لحاجتها إلى المال، لكن لشعورها بالعجز عن الدفاع عنها، خاصة بعدما هُزمت في حرب القرم أمام بريطانيا وفرنسا. فهل تشعر كندا اليوم بالعجز عن إدارة شؤونها بعد استقالة رئيس وزرائها جاستن ترودو؟ أو هل تشعر الدانمارك بالعجز عن ضمان أمن جزيرة غرينلاند؟
إقرأ أيضاً: معايير أميركا: ملاك في أوكرانيا.. شيطان في غزّة
الجواب: لا كندا عاجزة ولا الدانمارك محتاجة. ولكنّ الولايات المتحدة تبقى منسجمة مع ذاتها ومع تاريخ تكوينها!!