بعد بيروت والشام… متى تتحرّر بغداد؟

مدة القراءة 5 د

لن تلتفت بغداد إلى غربها العربيّ بعد اليوم. هناك حيث حليفها بشار الأسد قد غادر غير مأسوف عليه إلى بلاد، كان ابنها، ابن فضلان قبل عشرة قرون، قد رحل إليها وأقام بين قبائلها وسط احتفاء ليس له مثيل.

هل سيكون خيارها الأخير من خيار مسلّحيها الذين سُدّت أمامهم الطرق التي كانت تصل بهم إلى دمشق وسواها من مدن الشام؟ تلك هي التعاسة التي قد تعود بشيء من النفع عليها في زمن قريب.

 

ستنطوي رقبة إيران وهي مشدودة الأعصاب في اتّجاه شرق، هو ليس منها، ولديها معه ذكريات سيّئة. شرقٌ لا يبادلها العاطفة ولا يسقيها ماء الحنان. بل ويبخل عليها بالغاز الذي يضيء عتمة لياليها. ولن يكون العمى الطائفي قدراً أبديّاً لكي تبقى بغداد رهينة ذلك المصير الذي حطّ من قيمتها التاريخية، حين جعل منها حديقة خلفيّة لصبيان فارس، الذين لم يعد الوقت يعمل لمصلحتهم.

يُقال إنّ الدور جاء على بغداد. آن الأوان لتحريرها من الاحتلال الفارسي بعدما قاربت بيروت خلاصها وانعتقت دمشق من أبد الأسد

اللّعب في وقت ضائع

يُقال إنّ الدور جاء على بغداد. آن الأوان لتحريرها من الاحتلال الفارسي بعدما قاربت بيروت خلاصها وانعتقت دمشق من أبد الأسد، الذي أشعل النار فيها قبل فراره، في ظلّ خَرَس إيران ومَن بقي من وكلائها في العراق واليمن. الذين صاروا على بيّنة من حقيقة أنّ ملاليهم يُتقنون لعبة إدارة الظهر لما لا يرغبون في رؤيته من هزائمهم.

بغداد هي المدينة التالية إذاً. ذلك ما لا يصدّقه أهلها وقد تلفت أعصابهم ويبست شفاههم ووهنت عظامهم وتعبت أياديهم من التلويح في فضاء وهميّ. ما قيل وسط تهريج طائفي رافقه الكثير من العنف من أنّ أهل تلك المدينة، التي تعبت من الحروب، لا ينتظرون إلّا الفرج، الذي يأتي مع ظهور الإمام الغائب، هو نوع من اللعب الأبله في الوقت الضائع. تعرف بغداد أنّ كلّ ما مضى في كفّة، وفي الكفّة الثانية ذلك العذاب الذي سيقرّبها من قيامتها.

بغداد هي المدينة التالية إذاً. ذلك ما لا يصدّقه أهلها وقد تلفت أعصابهم ويبست شفاههم ووهنت عظامهم وتعبت أياديهم من التلويح في فضاء وهميّ

المدينة التي خذلها الجميع

بعد فرار الإيرانيين وأتباعهم من مرتزقة عراقيين وأفغان من سوريا، في وقت قياسي، لم يكن يتخيّله أحد، صار أتباع النظام الإيراني في العراق يضعون أيديهم على قلوبهم، خشية أن يخونهم التوقيت، ولا تبلغهم إيران بموعد الهروب، فتدوسهم الأقدام التي صارت اليوم تنظّم حركتها على إيقاع التحوّل الذي بات قريباً.

بغداد هي المدينة التي خذلها الجميع، أبناؤها القادمون من غربتهم التي لم يتعلّموا منها شيئاً ينفعهم وينقذ بلادهم من جحيمها، وأبناءها في الداخل الذين ضربتهم الحروب باليأس. ولم يكن الأميركيون إلا سبباً في تكريس الانهيار الداخلي، الذي كان حصيلة لماضٍ من الشقاء. ماضٍ تعدّدت أشكاله مع تقلّب الأزمنة، التي ملأها العراقيون عنفاً وقسوة وذهبوا ضحيّة لها وهم يتوهّمون أنّهم يصنعون قدرهم الوطني الذي انتهى بهم إلى فشل تاريخي.

تقيم بغداد على محور قلق وتمشي بقدمين من غبار من غير بوصلة. عادت إليها ميليشياتها التي لا تواليها، من سوريا

أمل تائه في الخلاص

بغداد تنتظر.

متى لم تكن تنتظر؟ فرحت يوم 8/8/1988 حين انتهى انتظارها بعد حرب الثماني سنوات بيوم نصر مرّ سريعاً ليسلّمها إلى انتظار الغزاة، الذين جاؤوا من جنوبها. وقد طال أمد ذلك الانتظار إلى أن حلّ يوم التاسع من نيسان 2003 ووقعت فاجعة الاحتلال الذي لم يعد للانتظار بعده من معنى.

لكنّ بغداد بعد ما جرى في لبنان وسوريا عادت إلى الانتظار.

تقيم بغداد على محور قلق وتمشي بقدمين من غبار من غير بوصلة. عادت إليها ميليشياتها التي لا تواليها، من سوريا، فصار عليها أن توسّع من مساحة معسكرات، هي ليست جزءاً من جغرافية خيالها، بل فرِضت على واقعها المضطرب باعتبارها علامة شؤم وساعة خراب.

بغداد اليوم ليست بغداد. لقد تنكّرت لمنصورها ورشيدها ومعتصمها وناظمها وجوادها وعفيفتها ونوريها وسركونها وحلّاجها وكيلانها وفتيتها، الذين جمعوا الكون من ألفه إلى يائه في رسائل إخوان الصفا. فهل تتمكّن من استعادة ما فقدته من لغتها ومزاجها وصفاء سريرتها وأريحيّتها ونضارتها وعلوّ مقامها وكرمها وعنفوان شبابها وصخب دمها وأصوات شبابها المترعة بقصائد شاعرها “أبي نؤاس”، إذا ما انقشعت غيوم الليل الفارسيّ عن سمائها؟

إقرأ أيضاً: سوريا: إسرائيل أخرجت إيران.. فحضرت تركيا

منذ أكثر من ستّين سنة وبغداد تتقلّب بألم. مرّات على مقلاة الأحزاب ومرّات على مقلاة أعدائها من روم ومن عجم. ولم يكن أبناؤها وقد تسلّحوا بعقائد أحزابهم، أقلّ قسوة عليها من أعدائها، الذين يودّون لو أنّهم أطفأوا النار التي أشعلها المنصور من أجل أن يرسم حدود مدينته الدائرية.

لن تكتمل خريطة الشرق الأوسط الجديد من غير أن تتحرّر بغداد. في ذلك جزءٌ من الأمل. وهو أمل تخشاه بغداد بقدر ما تضع نذورها بين يديه.

مواضيع ذات صلة

سوريا الجديدة: نبوءة لم تتحقّق وسرّان كبيران

منذ الستّينيات تنبأ حنّا بطاطو الأستاذ يومها بالجامعة الأميركية ببيروت أنّ مشكلات داخلية كبرى ستحصل بالعراق لأسباب إثنية ودينية وجغرافية، فليس هناك شعب عراقي، وإنّما…

سوريا تسبق لبنان إلى الحاضنة العربيّة

هل تسبق سوريا لبنان إلى الانضواء تحت الحاضنة العربية في سياق الجهد الدولي العربي لإخراج البلدين من العباءة الإيرانية وعدوانيّة إسرائيل؟ في لبنان ما زالت…

السّعوديّة… “احتضان” اللّحظة السّوريّة

كانت لافتةً السرعة التي تفاعلت بها السعودية مع الحدث السوري الكبير. لا تردّد، لا تحفّظ، لا تريّث، ولا وقت للتأمّل والانتظار. بعد ساعات من إعلان…

سمير عسّاف: مرشّح لا يعرفه ناخبوه

مرّت على الرئاسة اللبنانية، قبل الاستقلال كما بعده، صنوف من البشر: المحامي والضابط والوزير والنائب والسفير والإداري والتاجر، الأمير والزعيم والخارج من بيت فقير متواضع،…