ما لم تقع مفاجأة في ربع الساعة الأخير، سيكون لجلسة 9 كانون الثاني حصان واحد هو قائد الجيش جوزف عون: يُنتخب من الدورة الأولى أو يخرج من السباق نهائياً. بعدذاك، في الدورة الثانية أو في دورة ثالثة لاحقة ما دام رئيس البرلمان نبيه برّي يؤكّد أنّها ستكون متتالية، يتساوى المرشّحون الآخرون في حظوظ هي صفر في المئة ومئة في المئة في الوقت نفسه. تسوية اللحظات الأخيرة تختار الرئيس من بين ثلاثة أسماء هي الآن الأكثر بروزاً: الياس البيسري وسمير عساف وثالثهم جهاد أزعور، على نحو خاله جان عبيد، يثق بأنّ الظرف وحده يصنع الرئيس.
قلّما أُتيح لجلسة كتلك التي في 14 حزيران 2023 أن تختصر نماذج من تجارب سابقة لانتخاب رئيس للجمهورية، في الماضي البعيد قليلاً والماضي القريب، بأن لا تسفر أوّلاً عن انتخابه في المهل الدستورية ولوقت طويل بعدها منذ درج بعد عام 1988 تعطيل نصاب الالتئام، وأن تتّسم بطابع تنافس مرشّحيْن اثنين ينقسم البرلمان من حولهما على غرار تنافس سليمان فرنجية والياس سركيس عام 1970 وتنافس الياس سركيس وريمون إدّه عام 1976، وأن يتقاطع الأفرقاء المسيحيون على مرشّح لا يمتّ بصلة إلى أيّ من خياراتهم ومعسكراتهم وسياساتهم مثلما فعل أقطاب الحلف الثلاثي كميل شمعون وريمون إدّه وبيار الجميل عام 1970 بأن رَامَ كلّ منهم الترشّح وفي الوقت نفسه الحؤول دون وصول أيّ من شريكَيْه الآخرين، فانتهى المطاف بهم إلى ترشيح سليمان فرنجية، وأن تشهد قدْراً واسعاً من التدخّل الخارجي كي تلتئم فإذا فيتو الطائفة أقوى تأثيراً.
9 كانون الثّاني: جلسة حصان واحد هو جوزف عون: يُنتخَب أو يخرج نهائيّاً
رسمت جلسة 14 حزيران زيحاً بين التي سبقتها وتلك المفترض أن تليها متأخّرة سنة ونصف سنة، كي تكون الجلسة الأخيرة لانتخاب الرئيس. أخضعت الاستحقاق لتوازن مذهبي وسياسي في آن: رفْض ثنائي مسيحي مستجدّ مثّله التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية مرشّحاً حاول الثنائي الشيعي من “الحزب” وحركة أمل فرض انتخابه. أخرجت أيضاً انتخاب الرئيس من وظيفته كاستحقاق دستوري دوريّ كي يمسي استفتاء على خيارات يستعصي فرض أيّ منها.
اللّائحة الطّويلة منذ 2022
منذ ما قبل نهاية ولاية ميشال عون، طُرحت لائحة طويلة من أسماء محتملة لرئاسة الجمهورية، بينها نوّاب ووزراء سابقون ورجال اقتصاد ودبلوماسيون وحزبيون، علاوة على الاسم التقليدي في كلّ استحقاق، وهو قائد الجيش. أفصحت الجلسة الأولى في 29 أيلول 2022، شهراً قبل انطواء الولاية، عن انقسام البرلمان لكن بغموض والتباس: مرشّح معلن هو ميشال معوّض، وآخر مضمر توارى وراء الورقة البيضاء مثّل خيار الثنائي الشيعي وحلفائه دونما أن يكون سرّياً. لم يخفَ أنّ سليمان فرنجية هو مرشّح فريق الورقة البيضاء التي ستثابر على منافسة ميشال معوّض طوال الجلسات الإحدى عشرة التي كانت آخرتها في 19 كانون الثاني 2023 يوم انقضاء شهرين ونصف شهر على الشغور، والتي تعذّر على أيّ منها دخول الدورة الثانية من الاقتراع. اكتمل نصاب الثلثين للدورة الأولى وأنبأ باستحالة انتخاب الرئيس بسبب تطييره فيما بعد.
تعهُّد سفراء الثّلاثيّة الدوليّة انتخاب الرّئيس سهَّل التّقاطع على جهاد أزعور
الوجه الآخر لثنائية ميشال معوّض ـ الورقة البيضاء قبل كشف رئيس البرلمان نبيه برّي في 3 آذار عن اسم سليمان فرنجية، أباح الاعتقاد بأنّ المواجهة ظاهرها تنافس مرشّحَيْن زغرتاويَّيْن سبق أن جُرِّب عامَيْ 1988 و1989، وفي صلبها نزاع بين خياريْن ومشروعيْن متنافريْن وتحالفيْن إقليميَّين. بينما جهر داعمو ميشال معوّض بموقفهم منه صادقين أو مناورين، كان فريق الورقة البيضاء موزّعاً على حلفاء سليمان فرنجية كالثنائي الشيعي ومعارضي انتخابه كجبران باسيل. بعدذاك توقّف انعقاد جلسات الانتخاب فسحاً في المجال أمام حلّ يُخرج الكتل من دوّامة الإخفاق إلى أن تقاطَعَ حزب القوات اللبنانية وأحزاب وتجمّعات مسيحية أخرى مع التيار الوطني الحرّ على لائحة من أربعة أسماء، حضّ عليها سفراء الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية قبل تحوّلهم إلى لجنة خماسية بانضمام قطر ومصر إليهم.
كانت إشارة التشجيع الأولى مقرونة بتعهّد قاطع تلقّاه بطريرك الموارنة مار بشارة بطرس الراعي من رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون، الذي عبّر عمّا تطلبه اللجنة الثلاثية، وهو دعوة المعارضة المسيحية ومناوئي ترشيح سليمان فرنجية إلى التوافق على مرشّح يخوضون به الاستحقاق.
جنبلاط: أزعور مرشّحي
حتى مطلع أيّار 2023 اتُّفق على لائحة من أربعة ضمّت صلاح حنين وجهاد أزعور وزياد بارود إلى قائد الجيش. في الأسابيع التالية من المفاوضات خفّضت المفاضلة الأربعة إلى اثنين هما صلاح حنين وجهاد أزعور، قبل أن تستقرّ أخيراً على الثاني رئيس دائرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والخليج وآسيا الوسطى والقوقاز في صندوق النقد الدولي. شخصية معتدلة مستقلّة، غير موصوفة بالاستفزاز، يعرفها الغرب والشرق بحكم منصبها، ملمّة بعلاقة صندوق النقد الدولي بلبنان بعد انفجار أزمته المالية والاقتصادية عام 2019. أضف علاقاتها، للسبب نفسه، بقادة الدول ذات الصلة الوثيقة بلبنان كالأميركيين والفرنسيين والخليج العربي.
منذ ما قبل نهاية ولاية ميشال عون، طُرحت لائحة طويلة من أسماء محتملة لرئاسة الجمهورية
تقاطَعَ أعداء سليمان فرنجية على مرشّح واحد أكثر منهم تحالفوا. لم يُحسبوا مرّة فريقاً واحداً ولا اتّفقوا على خيار بديل لاحق منه. لم يقترحه أحد منهم على الآخر ولا متَّ بصلة إلى أفرقاء التقاطع. انضمّ إليهم وليد جنبلاط وكان أوّل مَن طرح اسم جهاد أزعور مرشّحاً محتملاً في لائحة اختارها بنفسه جمعت صلاح حنين وشبلي الملّاط ومي الريحاني. بالوصول إلى جلسة 14 حزيران 2023 حاز جهاد أزعور 59 صوتاً هي ائتلاف مروحة من المعارضة المسيحية والتيار الوطني الحر ووليد جنبلاط ونواب تغييريين، فيما حاز سليمان فرنجية 51 صوتاً من الثنائي الشيعي وحلفائه. إلى ذلك الوقت لم يكن جهاد أزعور أعلن ترشّحه، مكتفياً بتأييد ترشيح التقاطع له. أحجم عن الحضور إلى لبنان ملازماً مكتبه في واشنطن، وطلب في الأيّام العشرة السابقة لجلسة 14 حزيران من صندوق النقد الدولي إجازة إدارية.
أبقت الجلسة الثانية عشرة المأزق يراوح مكانه. غدا واضحاً أنّ أيّاً من فريقَيْ الاقتراع، في ظلّ موازين القوى الراهنة، عاجز عن فرض انتخاب مرشّحه، لكنّه قادر في الوقت نفسه على الحؤول دون وصول المرشّح المنافس. المُعبِّر الفعليّ عن الفشل المتعمّد للجلسات الاثنتي عشرة، أنّ الاستحقاق أضحى أسير فيتوَيْن مذهبيَّين: ثنائي شيعي يُمسك بنوّاب الطائفة جميعهم، وثنائي مسيحي يُستعصى انتخاب رئيس من دون أحد طرفيْه. لم تعد المنافسة بين المرشّحَيْن نزاعاً على خيارات سياسية وعقائدية بمقدار ما توخّت الخروج من اصطفاف مقفل.
جهاد أزعور… و”الحزب”
قبيل الوصول إلى جلسة 14 حزيران تواصل جهاد أزعور مع “الحزب” كما يفعل أيّ مرشّح مع كتلة ناخبة وازنة. ردُّ الفعل كان سلبيّاً مع عَدِّ ترشّحه تحدّياً لسليمان فرنجية، وتالياً للثنائي الشيعي.
وليد جنبلاط وكان أوّل مَن طرح اسم جهاد أزعور مرشّحاً محتملاً في لائحة اختارها بنفسه جمعت صلاح حنين وشبلي الملّاط ومي الريحاني
أتى جهاد أزعور من شركة Mckinsey، بعدما أوفدته إلى المنطقة لفتح مكتب إقليمي لها في بيروت، إلى وزارة المال عام 1999 بناء على طلب وزيرها جورج قرم لتولّي مشروع يديره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) عُني بوضع إصلاحات للوزارة. خَلفَ في الوظيفة باسل فليحان المستقيل منها في ضوء تداعيات نزاع إميل لحود ورفيق الحريري على أولى حكومات العهد الجديد. استمرّ في إدارة البرنامج حتى نهاية كانون الأوّل 2004 مرافقاً ثلاثة وزراء للمال هم تباعاً، إلى القرم، فؤاد السنيورة والياس سابا. لثلاث سنوات خلت، في كانون الثاني 2001، تعرّف إلى رفيق الحريري في طائرته، وكان في عِداد الوفد المرافق لرئيس الحكومة إلى اليابان. كان تقدّم باستقالته إلى جورج قرم عام 2000 على إثر فوز رفيق الحريري في الانتخابات النيابية العامّة، مستبقاً ما تردّد آنذاك عن توزير باسل فليحان في الحكومة الجديدة في حقيبة المال.
أخفقت المحاولة بانتقال باسل فليحان إلى حقيبة الاقتصاد والتجارة وعودة فؤاد السنيورة إلى وزارة المال، فطلب من جهاد أزعور الاستمرار في برنامج الأمم المتحدة بعدما كان وقّع اتّفاقاً مع قطر يتعيّن بموجبه مستشاراً اقتصادياً لأميرها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. لبث في وزارة المال إلى نهاية عام 2004، ثمّ انتقل إلى شركة BoozAllen إلى أن عيّن في 19 تموز 2005 وزيراً للمال.
تقاطَعَ أعداء سليمان فرنجية على مرشّح واحد أكثر منهم تحالفوا. لم يُحسبوا مرّة فريقاً واحداً ولا اتّفقوا على خيار بديل لاحق منه
وزيراً مع فؤاد السّنيورة.. وانكسار الرّافضين
تسبّب إصرار فؤاد السنيورة على توزيره بمشكلة مع السُّنّة لانتقال الحقيبة منهم إلى الموارنة، ومع هؤلاء لانتقال تسمية وزير في الطائفة إلى رئيس الحكومة السّنّي. في حكومة ما بعد اتّفاق الدوحة عام 2008 أعاد فؤاد السنيورة اقتراح توزيره في حقيبة المال مجدّداً، فتحفّظ ميشال سليمان راغباً في الاحتفاظ بالمقعد الماروني لحقيبة سيادية له هي الداخلية أحلّ فيها زياد بارود، فخَلَفَ محمد شطح جهاد أزعور في وزارة المال. في الحكومة التالية عام 2009 طلب رئيسها سعد الحريري توزيره في حقيبة المال، فاعترض ميشال عون رافضاً منح رئيس الحكومة السّنّي حقّاً في تسمية وزير ماروني، فآلت الحقيبة إلى ريّا الحسن.
إقرأ أيضاً: الياس البيسري: قطر ترشّح.. والسعودية “عالسمع”؟
إلى الآن لم تقُل أحزاب التقاطع بتخلّيها عن ترشيح جهاد أزعور. بدوره لم يقُل بتخلّيه هو عنه. بيد أنّ معضلته لمّا تزل نفسها على الرغم من تراجع حظوظ سليمان فرنجية كما لو أنّه أضحى خارج الاستحقاق بعدما أفقدته الحرب الإسرائيلية على “الحزب” وسقوط نظام بشار الأسد حليفَيْه المؤثّرين في استمرار ترشّحه: فيتو الثنائي الشيعي لم يتبدّل ولم يتراخَ حتى الآن.