الياس البيسري: قطر ترشّح.. والسعودية “عالسمع”؟

مدة القراءة 9 د

المعتاد في مواصفات المرشّح لرئاسة الجمهورية ثمّ المنتخَب، أن يكون من اللاعبين على المسرح لا ممّن وراء الستارة. ذلك شأن نوّاب ووزراء ورؤساء أحزاب وقادة للجيش وقضاة وإداريين وسفراء. بيد أنّها المرّة الأولى التي يُرشَّح مَن يؤهّله منصبه للمشاركة في السرّ في صنع الرئيس وجمع الأصوات له وتقديم الإغراءات للمقترعين والترويج للدعاية والاستقطاب. لأشهر خلت صار إلى تداول اسم المدير العامّ للأمن العامّ بالإنابة الياس البيسري على أنّه أحد ذوي الحظوظ الاستثنائية.

 

لأنّه دائماً ثمّة مرّة أولى لا تلبث أن تصبح سابقة، طُرح منذ منتصف عام 2023 اسم المدير العامّ للأمن العامّ الياس البيسري مرشّحاً لرئاسة الجمهورية. المرّة الأولى في ترئيس قائد للجيش عام 1958 وُصفت بالسابقة، ثمّ أضحت تقليداً، ثمّ باتت أقرب ما تكون إلى واجب حتميّ في الاستحقاق الحالي كما لمرّتين على التوالي بعد اتّفاق الطائف. أمّا غير المألوف الذي يحتاج أيضاً إلى مرّة أولى فأن يؤتى على اقتراح مدير عامّ للأمن العامّ مرشّحاً محتملاً وهو بعد في الوظيفة. مكافأة تقاعده الشائعة تعيينه سفيراً كفريد شهاب وجوزف سلامة وريمون روفايل في تونس، وأنطوان دحداح في البرازيل، وفاروق أبي اللمع في باريس. الآخرون ذهبوا إلى تقاعد عاديّ.

لأنّها المرّة الأولى تعدّدت أسباب التأويل والاجتهاد. اثنتان من المرّات الثلاث لوصول قائد للجيش إلى الرئاسة أوجبتها محنة أمنيّة عاميْ 1958 و2008، فيما الثالثة فرضتها مشيئة دمشق. الحجّة المسوقة أنّ الجيش مؤتمن على أمن البلاد والنظام والدولة والمجتمع، وهو ما يضع المهمّة في يد قائده استثنائياً أكثر من أيّ سياسي آخر في بلد مضطرب على الدوام ندر أن لا يقع انتخاب رئيسه في لحظة استثنائية، خصوصاً عندما يكثر المرشّحون أو يتعذّر اتّفاقهم على أحد ما من بينهم.

للمدير العامّ للأمن العامّ وظيفة مختلفة، مؤدّاها أنّه مؤتمن على المعلومات والأسرار والخفايا والملفّات

أمين سرّ معلومات “الدولة”

للمدير العامّ للأمن العامّ وظيفة مختلفة، مؤدّاها أنّه مؤتمن على المعلومات والأسرار والخفايا والملفّات. دورٌ مخفيّ خلافاً للظهور العلني لقائد الجيش. أكثر ما بعث على الاهتمام بترشيح الياس البيسري أنّ وجوده على رأس الجهاز استثنائي. منذ عام 1998 انتقل المنصب إلى الطائفة الشيعية بعد 53 عاماً رأسه مارونيّ في معظمها ما خلا استثناءات قليلة، كأن يحلّ فيه أرثوذكسي (توفيق جلبوط وجميل نعمة) وكاثوليكي (نديم لطيف). من جرّاء صعوبة تعيين خلف لعباس إبراهيم عام 2023 في ظلّ شغور رئاسي وحكومة تصريف أعمال، أضحى الياس البيسري مديراً عامّاً بالإنابة بصفته أقدم الضبّاط رتبة. بذلك تقاطَعَ الحلول الاستثنائي له في الموقع مع فرصة خيار استثنائي لترشيحه لرئاسة الجمهورية. ستكون المرّة اليتيمة لمارونيّ في منصبه الحالي بعدما أضحى في حصّة الطائفة الشيعية.

يتداخل الدوران الأمنيّ والإداريّ لدى المدير العامّ للأمن العامّ. يعيّنه رئيس الجمهورية ويكون مستشار الظلّ الأقرب إليه، ويلازمه طوال ولايته فيغادرانها معاً، ويُنتدَب إلى مهمّات شتّى بعيدة من الأضواء. في تقاليد ما طَبَعَ دور المديرين العامّين في العهود المتعاقبة على نحو منتظم ثمّ تقلّصت المهمّات تدريجاً، أن يحملوا إلى الرئيس كما إلى الرئيس المكلّف تأليف الحكومة ملفّات مرشّحين للتوزير ونبذات عنهم، وأحياناً لمرشّحين للنيابة ممّن يريد العهد دعمهم في لوائح رسمية. ويُناط بهم التدقيق في سمعة المرشّحين للوظيفة العامّة وكفايتهم، لا سيما فئاتها الثلاث الأُوَل، والتغلغل في الأحزاب والجمعيات والنقابات والاتّحادات الطالبية. هذا الجانب السياسي المكتوم غير الوظيفي الذي يقتضي أن يفعله مستشار الظلّ. أضف إليه جمع المعلومات والاتّصالات والمصالحات ونقل الرسائل.

يتداخل الدوران الأمنيّ والإداريّ لدى المدير العامّ للأمن العامّ. يعيّنه رئيس الجمهورية ويكون مستشار الظلّ الأقرب إليه، ويلازمه طوال ولايته فيغادرانها معاً

بداية الطريق: من الجيش…

المألوف أيضاً أنّ أفضل مَن يحلّ في الأمن العامّ ضابط في الجيش على نحو سوابق توفيق جلبوط وأنطوان دحداح قبل اتّفاق الطائف، وجميل السيّد ووفيق جزّيني وعباس إبراهيم بعده. لنحو سنة مؤقّتاً تولّاه ضابط في الجيش أيضاً هو ريمون خطّار. مغزى التعويل على هؤلاء أنّهم يحملون معهم تجربة الجيش إلى جهاز يوصف في الغالب بأنّه مدنيّ. عند تبخيس دوره يقال إنّ ما يفعله ليس سوى إصدار جوازات سفر وختمها ومنح إقامات لغير اللبنانيين. واقع ما حصل في العقود المتوالية منذ عام 1945 أنّ مديري الجهاز من بين الضبّاط أضحوا ذوي بصمات مهمّة خلّفتها عهود الرؤساء.

اختبر الياس البيسري قبل الوصول إلى الأمن العامّ العسكر والأمن والإدارة طوال 19 عاماً في الجيش بين عامَيْ 1986 و2005: بدءاً في الألوية المقاتلة السابع والخامس والعاشر، ثمّ في فوج المكافحة في مديرية المخابرات، ثمّ في مكتب قائد الجيش إميل لحّود ستّة أشهر في عامَيْ 1991 و1992، فإلى مديرية المخابرات مجدّداً بين عامَيْ 1993 و1998 في جهاز أمن مرفأ بيروت، فرئيس للشبكات المركزية في فرع الأمن العسكري، قبل الانتقال إلى غرفة الأوضاع في القصر الجمهوري في السنتين التاليتين.

من بعدهما رأس مكتب وزير الداخلية الياس المر حتى عام 2004 قبل أن ينتقل إلى ملاك الأمن العامّ ويُفصَل إلى رئاسة مكتب وزير الدفاع الياس المر حتى عام 2011 حينما عاد نهائياً إلى الأمن العامّ. في مرحلة غرفة الأوضاع كان التماسّ الأوّل مع الإدارة اللبنانية بتشعّب مؤسّساتها. مع أنّ أمين الجميّل كان السبّاق إلى إنشاء غرفة الأوضاع للاطّلاع على شكاوى اللبنانيين من الإدارة، توسّع إميل لحّود رئيساً للجمهورية في مهمّاتها. وزّع الوزارات والإدارات على ضبّاط غرفة الأوضاع ليلاحقوا شؤونها وتسهيل معاملاتها وحلّ مشكلاتها، جاعلاً من الغرفة منصّة رامَ منها مكافحة الفساد. أُوْكِلت إلى الياس البيسري وزارات الأشغال العامّة والنقل والداخلية والبلديات والطاقة والمياه والمال. أجرى عام 2006 دورة تجنيد المصادر البشرية، ثمّ عام 2012 دورة خاصّة في مبادئ التخطيط الاستراتيجي وأسسه، قبل أن يحوز في كانون الأوّل 2023 شهادة الدكتوراه في الحقوق بعنوان “دور التشريع والاتّفاقات الدولية في تفعيل الرقابة على مكافحة الفساد في الشركات المساهمة”.

اختبر الياس البيسري قبل الوصول إلى الأمن العامّ العسكر والأمن والإدارة طوال 19 عاماً في الجيش بين عامَيْ 1986 و2005

تأجيل التقاعد.. مع جوزف عون

بانتهاء فصله إلى وزارة الدفاع عام 2011 عُيِّن لأربعة أشهر في مكتب المدير العامّ، ثمّ رأس مكتب الشؤون الإدارية طوال 11 عاماً. على أبواب إحالته إلى التقاعد في 4 كانون الأوّل 2022 مثُل أمام لجنة صحّية عسكرية للنظر في نسبة الاعتلال الناجمة عن إصابته في انفجار استهدف الياس المر في 12 تموز 2005. إلى أن تبتّ اللجنة الصحّية تقريرها، أرجأت تقاعده ثلاثة أشهر انتهت غداة إحالة عباس إبراهيم إلى التقاعد في 2 آذار 2023. عُيّن مديراً عامّاً بالإنابة لتسيير المديرية العامّة للأمن العامّ بقرار من وزير الداخلية، وصار إلى تجديد تأخير تقاعده وترفيعه إلى لواء في انتظار تعيين مدير عامّ أصيل. استفاد الياس البيسري وحاملو رتبة لواء من تمديد ولاية جوزف عون قائداً للجيش عامذاك في كانون الأوّل سنةً جديدة، وكذلك من التمديد الثاني في تشرين الثاني المنصرم لحاملي رتبة عميد وما فوق لسنة واحدة.

في ثاني اجتماعات “الخماسية الدولية” في الدوحة في 17 تموز 2023، بعد أوّل في باريس لستّة أشهر خلت، أصدرت بياناً حدّدت فيه مواصفاتها للرئيس اللبناني المراد انتخابه دونما إتيانها على ذكر أيّ اسم. لم تنقضِ أسابيع، خلافاً للمتّفق عليه في الخماسية الدولية، خرجت قطر بترشيح الياس البيسري. مذّاك أضحى مرشّحَها فيما الدول الأربع الأخرى كتمت أسماء مرشّحيها دون أن تخفي بالتلميح مَن تحبّذه أو تفصح عمّن لا تريد وصوله إلى الرئاسة. وحدها فرنسا بعد وقت غير طويل على الشغور، قبل أن يفصح الثنائي الشيعي عن دعمه له في آذار 2023، أيّدت ترشيح سليمان فرنجية ثمّ تراجعت عنه، إلى أن راحت أخيراً تروّج لترشيح سمير عساف.

بترشيحها الياس البيسري تحاول الدوحة استعادة التجربة الأولى. نظرت إلى مرشّحها على أنّه “ابن الدولة” الخارج من مؤسّساتها، المجرَّب في الأمن والسياسة والإدارة

كيف توطّدت علاقته بقطر؟

إبّان توطيد عباس إبراهيم علاقاته بقطر وتعاونه الأمنيّ معها، خصوصاً في ملفّات مخطوفي أعزاز وراهبات معلولا والعسكريين اللبنانيين المخطوفين لدى التنظيمات الإرهابية بين عامَي 2012 و2016، لم يكن الياس البيسري في فريق التفاوض مع الدوحة المقصور آنذاك على مكتب شؤون المعلومات. لاحقاً، في منصبه الجديد، في سياق استكمال تبادل المعلومات مع نظيره القطري توطّدت العلاقة. قبيل كشفها عن دعم انتخابه، سواء في لقاءات بزعماء أحزاب وقيادات لبنانية في قطر أو من خلال زيارات مع موفديها لبيروت، فاتحته الدوحة في الخيار وأبلغته أنّها أخذت على عاتقها التنسيق مع الشركاء الآخرين في الخماسية الدولية.

للمرّة الثانية تحاول الإمارة أن تكون الشريك العربي في انتخاب الرئيس اللبناني. دور اعتادت مصر وسوريا والسعودية، كلٌّ بمفردها أو معاً أو ثنائياً، التناوب عليه على نحو مباشر أو غير مباشر قبل اتفاق الطائف وبعده.

أخرجت الدوحة انتخاب الرئيس عام 2008 بتوافق ضمنيّ عربي ـ دولي، في صيغة غير مسبوقة في مؤتمر مصالحة وطنيّة عُقد على أراضيها: تضمين البند الأوّل في اتّفاق المصالحة تسمية الرئيس وحصر الانتخاب به وحده على أنّه مرشّح توافقي قبل الوصول إلى جلسة الانتخاب في مجلس النواب، وفي معزل عن الاقتراع السرّي المنصوص عليه في المادّة 49 في الدستور.

إقرأ أيضاً: جورج خوري: تقاطع المستعصين

في الزيارة الأخيرة للموفد القطري أبي فهد جاسم آل ثاني لبيروت في 17 كانون الأوّل، جال على الأفرقاء وتحدّث في لقاءات مغلقة عن مرشّح دولته ودعمها له. بعض مَن أصغى إليه من نواب سنّة، كان سمع لأيّام خلت من السفير السعودي وليد البخاري أنّ المملكة وقطر “تنسّقان وتعملان معاً وموقفاهما واحد”، قبل أن يضيف أنّ أميرَيْ البلدين “على تواصل دائم”. الأهمّ في ما أسرّ به وليد البخاري أنّ بلاده “لا تمانع انتخاب جوزف عون، ولا تمانع أيضاً انتخاب سمير عساف. ما تريده من انتخاب الرئيس أن لا يُكسَر الشيعة”. عند هذا الشرط يتقاطع الموقفان السعودي والقطري بحثاً عن المرشّح الذي يحظى بأوسع توافق من حوله.

بترشيحها الياس البيسري تحاول الدوحة استعادة التجربة الأولى. نظرت إلى مرشّحها على أنّه “ابن الدولة” الخارج من مؤسّساتها، المجرَّب في الأمن والسياسة والإدارة.

مواضيع ذات صلة

بعد بيروت والشام… متى تتحرّر بغداد؟

لن تلتفت بغداد إلى غربها العربيّ بعد اليوم. هناك حيث حليفها بشار الأسد قد غادر غير مأسوف عليه إلى بلاد، كان ابنها، ابن فضلان قبل…

جهاد أزعور: الظّرف يصنع الرّئيس

ما لم تقع مفاجأة في ربع الساعة الأخير، سيكون لجلسة 9 كانون الثاني حصان واحد هو قائد الجيش جوزف عون: يُنتخب من الدورة الأولى أو…

السّعوديّة تسحب لبنان من مستنقع الشّرق إلى أوروبا الجديدة

كلّ الصالونات السياسية في لبنان تهمس بسؤال واحد: ماذا تريد المملكة؟ من هو الشخص الذي تُفضّله لرئاسة الجمهورية؟ ثمّ لرئاسة مجلس الوزراء؟ ولا أحد يملك…

مأساة شراء النفوذ من خارج الحدود

ما استثمرت دولة في نفوذٍ خارج حدودها إلّا ودفعت ثمناً أكبر بكثير ممّا كسبت!   الشواهد على هذه الحقيقة دامغة، ولا مجال للجدل فيها. فقد…