جورج خوري: تقاطع المستعصين

مدة القراءة 10 د

صعد في الأيام الأخيرة المدير السابق للمخابرات والسفير السابق في الفاتيكان العميد جورج خوري كأحد الأسماء المرشّحة بقوّة لانتخابات الرئاسة. لم يكن في صدارتها في السنتين المنصرمتين من الشغور، في المرحلة غير المحسوب فيها انتخاب الرئيس. بعد الحرب الإسرائيلية وتعيين موعد الجلسة الثالثة عشرة في 9 كانون الثاني 2025، وتبدّل المواصفات وتبدّد الشروط وتلاشي الفيتوات، صار الانتخاب أقرب من أيّ وقت مضى.

 

يأتي الرؤساء من نادي النوّاب والوزراء والإداريين الكبار وقادة الجيش. للمرّة الأولى يصار على نحو جدّي إلى تداول اسم مدير سابق للمخابرات مرشّحاً للرئاسة. ليس السفير السابق الأوّل. قبله كميل شمعون وشارل حلو، وكانا أيضاً نائبين ووزيرين سابقين، وصلا إلى الرئاسة.

فكّر رفيق الحريري قبل رئاسة الحكومة في جوني عبده، وكان مديراً سابقاً للمخابرات وسفيراً حالياً، في ترشيحه. جورج خوري ليس الأوّل في السوابق. ليست أيضاً المرّة الأولى التي يُرشَّح فيها. خريف 2015، السنة التالية لانتهاء ولاية ميشال سليمان، بمبادرة فاتيكانيةـ فرنسية، عُقد اجتماع في مقرّ السفارة الفرنسية في روما في حضور البطريرك مار بشارة بطرس الراعي ووزيرَيْ الخارجية البابوي دومينيك مامبيرتي والفرنسي برنار كوشنير، نوقشت فيه لائحة من أربعة أسماء محتملة للترئيس برسم اختيار أحدها، ضمّت جان عبيد ورياض سلامة وجان قهوجي وجورج خوري. كان الاجتماع يتيماً، لم تُعاوَد المبادرة المشتركة من بعده تحت وطأة الانقسام الداخلي طوال الأشهر التالية، إلى حين انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية عام 2016.

صعد في الأيام الأخيرة المدير السابق للمخابرات والسفير السابق في الفاتيكان العميد جورج خوري كأحد الأسماء المرشّحة بقوّة لانتخابات الرئاسة

مرشّح على رأس اللّوائح

بعض ما قيل عنه في الآونة الأخيرة يتكرّر الآن: نبيه برّي لا يمانع. نجيب ميقاتي أسمع في قطر تحبيذه إيّاه أمام سفيرة لبنان فرح برّي كي يصل الصدى إلى والدها. يُنقل عن جبران باسيل قوله إنّه متّفق ورئيسَيْ المجلس والحكومة على جورج خوري “مع وقف التنفيذ”. أكثر من وزير استقبلوا سفراء أخيراً سمعوا منهم أنّهم يضعون اسم جورج خوري في رأس اللوائح. فحوى ما يُساق من حجج أنّه تقاطع المستعصين.

ثمّة ما اقترن به وحده: أوّل مدير للمخابرات معلوم ائتمانه على الأسرار والخفايا يُمسي سفيراً في دولة الأسرار والخفايا والتحفّظ، وهي الفاتيكان. أوّل ضابط نيط به تنظيم علاقة الجيش بالكنيسة المارونية، تحديداً بين إميل لحّود ومار نصرالله بطرس صفير، وامتدّت تلك المهمّة إلى ما بعد انتخاب الأوّل رئيساً للجمهورية. سيكون الأوّل الذي تُقدم بكركي، للمرّة الأولى في تاريخها، على الطلب من رئيس للدولة هو ميشال سليمان عام 2008 أن يعيّنه قائداً للجيش.

أوّل تواصل بين جورج خوري والبطريركية المارونية أواخر عام 1993، أثناء رئاسته مكتب كسروان في فرع جبل لبنان في مديرية المخابرات في ثكنة صربا

أوّل تواصل مع بكركي

أوّل تواصل بين جورج خوري والبطريركية المارونية أواخر عام 1993، أثناء رئاسته مكتب كسروان في فرع جبل لبنان في مديرية المخابرات في ثكنة صربا. قدّم نفسه إلى البطريرك، ثمّ صار يتردّد عليه.

أولى مهمّاته كانت امتحانه الأوّل، وهي تداعيات انفجار كنيسة سيّدة النجاة في شباط 1994، ثمّ توقيف سمير جعجع وسجنه، وتولّي جورج خوري باسم قائد الجيش نقل رسائل تطلع البطريرك على التحقيقات وتبدّد شكوكه وتحاول إرساء علاقة وطيدة. آخر المهمّات في مكتب كسروان في 5 تشرين الأوّل 1998، في طريق عودة الياس الهراوي من القمّة الأخيرة بينه وبين حافظ الأسد في دمشق، إعلانه لوسائل الإعلام عن اتّفاقه والرئيس السوري على انتخاب إميل لحّود رئيساً للجمهورية.

رمى إفصاحه عن أنّ دمشق تنصّب الرئيس متوخّياً إلى ردّ سلبي، وتعمّد إغضاب بطريرك الموارنة كي يرفض على نحو مماثل لما حدث عام 1988. ساء قائد الجيش ما سمع، وأوفد جورج خوري لشرح الموقف والحصول على تأييد بكركي باستيعاب محاولة الاستفزاز. لم يخفِ نصرالله صفير امتعاضه من الطريقة المستعملة في انتخاب الرئيس، ولا من الجهة المعيِّنة.

في المقابل تكوّنت لديه في السنوات الأخيرة انطباعات إيجابية عن إعادة بناء الجيش وحفظ الأمن ومنع قائده، المتداول اسمه مرشّحاً محتملاً منذ عام 1995، السياسيين من التدخّل في شؤونه، ونأيه به عن فساد أطبق على الطبقة السياسية الحاكمة آنذاك.

كمنت المعضلة في موقف يجب على بكركي اتّخاذه من الرئيس الذي يوشك أن يُنتخب. بعد يومين انعقد الاجتماع الشهريّ لمجلس الأساقفة الموارنة دونما أن يسعه إغفال مَن سيُنتخب بعد أيّام رئيساً للجمهورية.

اقترح جورج خوري على البطريرك اكتفاء البيان الشهري بالترحيب بانتخاب قائد الجيش وتجاهل علاقة دمشق باختيار

وقعت القطيعة

اقترح جورج خوري على البطريرك اكتفاء البيان الشهري بالترحيب بانتخاب قائد الجيش وتجاهل علاقة دمشق باختياره. ذلك ما صدر الأربعاء 7 تشرين الأوّل 1998. بعد أربع سنوات وقعت قطيعة بين الرئيس والبطريرك أخرجت جورج خوري من دور ضابط الارتباط بينهما كي يخلفه العميد المتقاعد أدونيس نعمة.

امتعض إميل لحّود من دعم بكركي مرشّح المعارضة غابريل المر في الانتخاب الفرعي في المتن الشمالي عام 2002، وحضّها عشيّة الانتخاب على الاقتراع له، وتحدّث بعبارات قاسية أمام قبلان عيسى الخوري ضدّ البطريرك، وكان قد وصل إليه الكلام المتعمَّد إيصاله إليه. نقل جورج خوري عتب رأس الكنيسة المارونية على ما سمعه وخشيته من انقطاع تواصل المرجعين المارونيَّين، فأمره الرئيس بالانقطاع التامّ عن زيارة الصرح والاجتماع في أيّ مكان بسيّده.

بمرور سنة ونصف سنة من القطيعة، على أبواب خوضه تمديد ولايته عام 2004، دعا الرئيس جورج خوري إلى استئناف التواصل مع نصرالله صفير بغية استمالته إلى الخيار.

بعد اغتيال رفيق الحريري وإثارة اتّهامات سياسية لضبّاط كبار بأنّهم ضالعون فيه، أُرغم مدير المخابرات ريمون عازار على طلب إجازة مفتوحة ومغادرة منصبه. خلفه جورج خوري في ذروة انقسام البلاد بين قوى 8 و14 آذار، ووصلت تداعياته إلى الأجهزة الأمنيّة التي انقسمت بدورها من حولهما.

عُيّن بادىء بدء مؤقّتاً قبل أن يُثبّت التعيين في 25 نيسان 2005 ويدعوه قائد الجيش بعد أربعة أيّام إلى المشاركة في احتفال في ثكنة أبلح لوداع آخر كتائب القوات السورية التي تجلو عن كلّ الأراضي اللبنانية.

بعد اغتيال رفيق الحريري وإثارة اتّهامات سياسية لضبّاط كبار بأنّهم ضالعون فيه، أُرغم مدير المخابرات ريمون عازار على طلب إجازة مفتوحة ومغادرة منصبه. خلفه جورج خوري

واقعتان مهمّتان

واقعتان مهمّتان شهدتهما السنوات الثلاث لجورج خوري على رأس مديرية المخابرات:

  • الاولى تولّيه بالتعاون مع ممثّل الأمين العامّ للأمم المتحدة غير بيدرسون، سرّاً، إخراج السلاح الثقيل الحزب من جنوب نهر الليطاني عملاً بالقرار 1701. أصرّ غير بيدرسون على الخطوة، فانتهى المطاف إلى خطّة إخلاء سرّية طوال أسبوع، ثلاث ساعات ليلاً، لسحب الحزب سلاحه الثقيل، آليّات وراجمات وصواريخ ومدافع وعربات إلى البقاع وجبل لبنان.

آنذاك طُلب من قائد اللواء العاشر جان قهوجي، المنتشر حديثاً في بقعة عمليات القرار 1701، سحب حواجز الجيش لإخراج السلاح وسط تكتّم شديد، فيما لم تكن القوّة الدولية المعزّزة وسّعت كتائبها بعد أو أعادت انتشارها.

أهمّية ما حدث هو حماية الأمم المتحدة إخراج سلاح الحزب من جنوب نهر الليطاني تحت مظلّتها، لا مصادرته. وإصرار غير بيدرسون، كما ردّد على مسمع جورج خوري، على حلّ آمن سلميّ.

تحت وطأة تهديد الياس المر ووزراء وليد جنبلاط بالاستقالة من الحكومة، فضّل فؤاد السنيورة منع انفجار حكومته على انفجار الشارع

  • الثانية تحذير جدّي نقله إلى السلطات السياسية مستبقاً ما حدث في الساعات التالية. خابره وفيق صفا وأحمد بعلبكي ظهر 4 أيار 2008 يطلبان اجتماعاً عاجلاً في مكتبه في اليرزة، في حضور أشرف ريفي المدير العامّ لقوى الأمن الداخلي.

قالا إنّهما يحملان معهما “كلاماً رسمياً وجدّياً”. اجتمع الأربعة في الساعات القليلة السابقة لالتئام مجلس الوزراء واتّخاذه قراراً بتكليف الجيش قطع خطوط الاتّصالات السلكية للحزب.

بنبرة تهديد قال المسؤولان الأمنيّان في الحزب وحركة “أمل”: “أيّ قرار يُتّخذ نعتبره عملاً عدوانيّاً إسرائيلياً على الشيعة لا على الحزب ولا على حركة “أمل”. سنردّ ولن نتفرّج”. أقلقهما ما أبلغاه إلى جورج خوري لأسابيع خلت عن حركة مسلّحين من الشمال، خصوصاً عكار وطرابلس، في أحياء بيروت الغربية قدّراها بأكثر من ألفَي مسلّح، كأنّ ثمّة تحضيرات لعمل أمنيّ ما.

أخذ قائد الجيش ووليد جنبلاط علماً بالتحذير، وتعذّر إبلاغه إلى رئيس الحكومة فؤاد السنيورة المشغول باجتماعاته، إلّا في موعد انعقاد مجلس الوزراء عبر وزير الداخلية حسن السبع. وحده الزعيم الدرزي اعترف فيما بعد بتلقّيه تحذير مدير المخابرات.

في مطلع عهد ميشال سليمان، على أثر اتّفاق الدوحة، رغب نصرالله صفير إلى الرئيس الجديد أن يعيّن جورج خوري قائداً للجيش

طلب صفير لم يُلبَّ

تحت وطأة تهديد الياس المر ووزراء وليد جنبلاط بالاستقالة من الحكومة، فضّل فؤاد السنيورة منع انفجار حكومته على انفجار الشارع. مع أنّه لم يتحمّس للقرار، بيد أنّه انصاع لتهديد وزرائه. في الساعات القليلة التالية توالت فصولاً أحداث 7 أيار 2008 بغزو “الحزب” و”الحركة” بيروت الغربية.

في مطلع عهد ميشال سليمان، على أثر اتّفاق الدوحة، رغب نصرالله صفير إلى الرئيس الجديد أن يعيّن جورج خوري قائداً للجيش. لم يستجب الرئيس بذريعة أنّ من غير المتعارف عليه تعيين مدير للمخابرات قائداً للجيش، ولا سابقة لهذا الأمر. استقرّ الاختيار على جان قهوجي.

عشيّة جلسة مجلس الوزراء، في محاولة لإرضاء بكركي، ذهب الياس المر إلى البطريرك يعتذر عن عدم تلبية الرغبة قبل أن يقدّم إليه أحد خيارَينْ لجورج خوري: إمّا يكون مديراً عامّاً للجمارك أو سفيراً في الفاتيكان. كان جواب نصرالله صفير تحبيذه الخيار الثاني بعدما عبّر عن رأيه في ذاك الأوّل: “تريدون أخذه إلى الجمارك، يعني إلى اللصوص كي يكون ناطوراً عليهم”، وفق ما أسرّ به البطريرك إلى مدير المخابرات يقصّ عليه اجتماعه بوزير الدفاع دقائق بعد مغادرته.

في 3 أيلول 2008 استقال جورج خوري من الجيش بعد صدور مرسوم تعيينه سفيراً وتعيين القائد الجديد للجيش جان قهوجي في جلسة مجلس الوزراء في 28 آب

إلى الفاتيكان

في 3 أيلول 2008 استقال جورج خوري من الجيش بعد صدور مرسوم تعيينه سفيراً وتعيين القائد الجديد للجيش جان قهوجي في جلسة مجلس الوزراء في 28 آب.

خلال أسبوعين فقط، على الرغم من تقليد متّبع يتطلّب انتظار شهر ونصف شهر على الأقلّ من أجل الاستقصاء وجمع المعلومات، وافق الفاتيكان على اعتماده سفيراً جديداً للبنان بعدما مهّد البطريرك الماروني لقبول الاعتماد بإطرائه “ابن الكنيسة” أمام البابا بنيديكتوس السادس عشر. في 17 تشرين الثاني 2008 التحق بمقرّ عمله.

إقرأ أيضاً: جوزف عون: الاستثناء يصنع القاعدة

ثماني سنوات وأربعة أشهر أمضاها في منصبه انتهت في 16 تشرين الثاني 2016. قدّم أوراق اعتماده إلى البابا بنيديكتوس السادس عشر ثمّ عرف البابا فرنسيس. عرف أيضاً أمينَيْ سرّ الدولة تاريسيو برتوني حتى عام 2013 وبيترو بارولين. تقرّب من وزيرين متعاقبين للخارجية هما دومينيك مامبيرتي حتى عام 2013، وكان عرفه قبلاً عندما خدم الوزير في السفارة في حريصا، وبول ريتشارد غالاغر. عرف عن قرب مسؤول ملفّ لبنان المونسنيور ألبرتو أورتيغا ومسؤول العلاقات بين الأديان المونسنيور جان لوي توران.

مواضيع ذات صلة

جهاد أزعور: الظّرف يصنع الرّئيس

ما لم تقع مفاجأة في ربع الساعة الأخير، سيكون لجلسة 9 كانون الثاني حصان واحد هو قائد الجيش جوزف عون: يُنتخب من الدورة الأولى أو…

السّعوديّة تسحب لبنان من مستنقع الشّرق إلى أوروبا الجديدة

كلّ الصالونات السياسية في لبنان تهمس بسؤال واحد: ماذا تريد المملكة؟ من هو الشخص الذي تُفضّله لرئاسة الجمهورية؟ ثمّ لرئاسة مجلس الوزراء؟ ولا أحد يملك…

مأساة شراء النفوذ من خارج الحدود

ما استثمرت دولة في نفوذٍ خارج حدودها إلّا ودفعت ثمناً أكبر بكثير ممّا كسبت!   الشواهد على هذه الحقيقة دامغة، ولا مجال للجدل فيها. فقد…

تحرّك الرّياض: سقف الطّائف… وقَرْن الأقوال بالأفعال

في لبنان مثل سوريا، لا يحتمل الوضع التأخير في الدعم العربي، ولا سيما السعودي، لانتخاب الرئيس في جلسة 9 كانون الثاني. في دمشق لا مجال…