تركيا – إيران: هل تتراجع طهران عن خطاياها؟

مدة القراءة 8 د

أبرزت الارتدادات التي تركتها متغيّرات المشهد السوري مزيج من التصعيد والاصطفافات المتباعدة في العلاقات التركية الإيرانية. دبلوماسية الجمع بين التعاون والتنافس باتت صعبة لأنّ توازنات الداخل السوري تغيّرت في الأسابيع الأخيرة لمصلحة المزيد من النفوذ التركي على حساب التقوقع والانحسار الإيراني… فما هو مشهد العلاقات التركية الإيرانية في المدى المنظور؟

 

خسرت إيران خلال 13 يوماً ما جمعته في 40 عاماً أمام الطاولة السورية. تصريحات القيادات الإيرانية بعد أيّام قليلة على إسقاط نظام الأسد تدلّ على ذلك. الدعوة إلى التريّث وعدم المبالغة في الفرحة السورية رافقتها دعوة إلى العصيان والتمرّد. هناك خيبة أمل إيرانية نتيجة فشل مشروع الرهان على الحلفاء والشركاء في سوريا. إذاً عاديّ ارتفاع أصوات التحريض والتحدّي.

لكن هل تعيد التسويات السياسية السورية – السورية، والتحوّلات في التوازنات الإقليمية، إيران إلى المشهد السوري؟ وتركيا، التي قد تأخذ أكثر ممّا تتوقّع في سوريا اليوم، هل تساعدها لموازنة علاقاتها الإسرئيلية والعربية والغربية في الإقليم؟

أبرزت الارتدادات التي تركتها متغيّرات المشهد السوري مزيج من التصعيد والاصطفافات المتباعدة في العلاقات التركية الإيرانية

سوريا شأن إيرانيّ داخليّ

لن تتخلّى إيران عن سياسة حافة الهاوية التي تبنّتها في سوريا لأنّ خياراتها الأخرى تعني تعريض كلّ ما شيّدته منذ عام 1980 حتّى اليوم للسقوط والانهيار، وتقريب موعد الانفجار الداخلي سياسياً واجتماعياً وأمنيّاً على طريق السير في المجهول.

ما ينتظر طهران بعد احتراق أوراقها في غزة وجنوب لبنان وسوريا مقلق أيضاً. الأحجار التي تحرّكها في العراق واليمن لم تعد مؤثّرة على رقعة الشطرنج الإقليمية الجديدة. فأين وكيف سيردّ المرشد؟ ولمن ستكون الأولويّة؟ وهل الهدف هو إبعاد السيناريو السوداويّ عن إيران والخروج من الحفرة التي رمت نفسها فيها؟ أم التمسّك بالرهان على دبلوماسية “الصولد الاستباقي” في محاولة لاسترداد بعض خسائرها؟

بدأت إيران تدخّلها في سوريا عام 2011 مع بداية الثورة السورية، حين دعمت نظام الأسد ضدّ الثورة المدنية، ولاحقاً ضدّ المعارضة التي تسلّحت، وذلك في إطار تحالف استراتيجي تطوّر ليشمل إرسال الجنود والميليشيات المحسوبة عليها لتقاتل في سوريا إلى جانب النظام. أقنعت روسيا بالتدخّل العسكري المباشر، بعدما وصلت إلى قناعة باستحالة نجاحها لوحدها في مخطّطها هناك.

أثار تدخّلها المباشر في الملفّ السوري غضب العديد من دول الجوار، وبينها تركيا، على الرغم من وجودهما حول طاولات ومنصّات إقليمية واحدة تعاملت مع الملفّ السوري، بسبب التباعد في التعامل مع الملفّ الكردي في سوريا والخلافات الكبيرة حول الوجود العسكري للبلدين هناك، وطروحات الحلّ السياسي الممكن، والتحالفات الإقليمية التنافسية.

مع تراجع النفوذ الإيراني في سوريا والعراق تكون أنقرة قد سحبت من يد طهران ورقة استراتيجية لعبتها باستمرار ضدّ المصالح التركية.

لن تتخلّى إيران عن سياسة حافة الهاوية التي تبنّتها في سوريا لأنّ خياراتها الأخرى تعني تعريض كلّ ما شيّدته منذ عام 1980 حتّى اليوم للسقوط والانهيار

“تروما” إيران السّوريّة

ساحات التباعد الأهمّ اليوم هي تحريك أحجار “قسد” والسليمانية وجنوب القوقاز وزيادة التعاون الإيراني مع روسيا والصين وعرقلة علاقات تركيا مع “شنغهاي”، أو محاولة تحسين العلاقات مع العواصم العربية أو التطبيع السريع مع الغرب وإسرائيل في إطار سياسة إقليمية مغايرة تخرجها من ورطتها الإقليمية. فهل يكون بمقدور اللاعب الروسي أو الصيني في سوريا أن يعيد فتح الطريق أمامها لتفعل كلّ ذلك؟

“تروما” إيران السوريّة سببها ارتدادات الحالة النفسية والسياسية العميقة التي خلّفتها خيبة الأمل الإيرانية في سوريا، وانهيار كلّ الاستثمارات السياسية والاقتصادية والعسكرية هناك، وما سيواكبها من تحوّل إقليمي في ميزان القوى على حساب مصالحها ونفوذها في المنطقة. الموجع أكثر هو أنّ كلّ ذلك يتمّ لمصلحة تركيا، أحد أبرز منافسيها في الإقليم.

خروج إيران من ورطتها السورية يتطلّب مراجعة علاقاتها مع القيادة السياسية الجديدة في دمشق، وقبولها التحوّلات الإقليمية والدولية الحاصلة هناك، وقناعتها بأنّ لوائح مصالحها الأمنيّة والسياسية في المنطقة لم تعد هي من يقرّرها أو يفرضها، بل التوازنات والمتغيّرات الحاصلة بعد 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023) وارتداداته الفلسطينية واللبنانية والسورية.

مع تراجع النفوذ الإيراني في سوريا والعراق تكون أنقرة قد سحبت من يد طهران ورقة استراتيجية لعبتها باستمرار ضدّ المصالح التركية

حاجة متبادلة… لا تتغيّر

انطلاقاً من الهبّات الباردة والساخنة في العلاقات التركية الإيرانية والتجارب السياسية السابقة، هناك من يعتبر أنّ التوتّر في العلاقات بين البلدين قائم، لكنّه لن يُحدث تغييراً جذريّاً في نموذج العلاقات بينهما. كلاهما يحتاج إلى الآخر لمواصلة العلاقات التجارية على الأقلّ. تصعيد القيادات الإيرانية في الأسابيع الأخيرة ضدّ تركيا بعد سقوط طهران في المستنقع السوري، يتعارض مع حديثها عن وجودها حول الطاولة الإقليمية التي فتحت الطريق أمام إنهاء حكم بشّار الأسد.

الطريق الأقصر والأسرع ربّما هو طلب طهران التهدئة وإعلان رغبتها بهدنة طويلة مع تركيا في خطوط التماسّ الثنائية والإقليمية، التي تلتقي فيها المصالح المشتركة. لكنّ العقبة هي تمسّك القيادات السورية الجديدة بالتصعيد ضدّ طهران بعكس ما قاله الشرع حول العلاقة مع روسيا: “لا نريد أن تخرج روسيا من سورية بطريقة لا تليق بعلاقتنا معها، فهي ثاني أقوى دولة في العالم، ولها أهمّية كبيرة”.

المستغرب أكثر هو أن نقرأ كلام علي أكبر ولايتي، مستشار الشؤون الدولية للمرشد الأعلى الإيراني، الذي يقول فيه إنّ سوريا كانت، على مدى الـ50 عاماً الماضية، ضلعاً من أضلاع المقاومة، وإنّ المشروع الاستكباريّ الذي استهدفها جاء لهذا السبب، ثمّ توصياته لبعض المسؤولين الأتراك “الذين يقدّمون النصيحة لإيران بضرورة توخّي الحذر من مغبّة إثارة غضب الصهاينة”، بـ”العودة عن الطريق الذي يسلكونه بدلاً من إغداق النصح على إيران”، وأن يتمسّك البعض بحماية خيط العلاقات التركية الإيرانية.

تواجه إيران اليوم الكثير من التحدّيات المعقّدة والمتشابكة، التي لم تقرّر بعد كيف ستتعامل معها

لماذا لا تذهب إيران إلى الهدوء؟

تواجه إيران اليوم الكثير من التحدّيات المعقّدة والمتشابكة، التي لم تقرّر بعد كيف ستتعامل معها. طريقها الأفضل والأقصر ربّما كان يمرّ عبر الإصغاء لما تقوله تركيا، وعدم قطع الطريق على آخر فرصة قدّمها الجانب التركي لبشّار الأسد. لكنّها ذهبت بالاتّجاه المعاكس وقرّرت تحميل تركيا مسؤولية الضربات الاستراتيجية التي تلقّتها هناك.

بدل بحث طهران عن فرص الحوار والتفاوض الهادىء مع تركيا في محاولة للخروج من عزلتها الإقليمية، وتبديل سياستها اللبنانية والسورية والعراقية واليمنية، وتقليص دعمها العسكري للجماعات المسلّحة في تلك الدول على حساب الحكومات المركزية هناك، والالتفات أكثر إلى التحدّيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية التي تواجهها، والتكيّف مع المتغيّرات الحاصلة من حولها، والبحث عن فرص طرح موضوع ملفّها النووي في إطار مقايضات سلمية حقيقية… نراها وقد فرّطت بكلّ ذلك واستبدلت به خيار التصعيد والتحدّي في النبرة والأسلوب مع تركيا، معلنة أنّه ستكون للمتغيّرات السياسية في سوريا وارتداداتها الإقليمية والدولية دور محوريّ في رسم مسار ومستقبل العلاقة بين تركيا وإيران.

خروج إيران من “المستنقع السوري” يتطلّب عدّة خطوات استراتيجية شاملة، نظراً للتعقيدات العسكرية والسياسية التي تحيط بتدخّلها في سوريا

قد يكون السباق الحاصل اليوم في مسار العلاقات التركية الإيرانية هو بين تفاقم التوتّرات بسبب الخلافات على التطوّرات السورية، وهو ما يعمّق صراع النفوذ بين البلدين، وبين محاولات الحفاظ على التوازن في التعامل مع الملفّات الثنائية والإقليمية. لكن لا مؤشّرات حقيقية بعد إلى أنّ طهران ستقوم بنقد ذاتي وتبدي استعدادها للإصغاء لما تقوله القيادات السورية الجديدة في دمشق.

بالمقابل هناك من يردّد في الداخل التركي أيضاً أنّه حان الوقت كي تستوعب القيادات الإيرانية أنّ ما قد يقوّي الموقف التركي في مواجهة النفوذ الإيراني الإقليمي هو ارتدادات سياسة إسرائيل الإيرانية، وتحديداً في لبنان وسوريا والعراق، التي بدأت تنتقل إلى اليمن بشكل سريع، ثمّ العقوبات الغربية على إيران التي تشكّل عبئاً كبيراً على الاقتصاد الإيراني في الداخل والخارج، والتي من المحتمل أن تتّسع وتتزايد لتشمل المزيد من القطاعات الحيوية الإيرانية. هذا إلى جانب توتّر علاقات إيران مع دول الخليج، التي ستزداد تدهوراً إذا ما واصلت إيران دعم الميليشيات في اليمن ولبنان.

إقرأ أيضاً: 2024: إردوغان أبرز الرابحين الإقليميّين

خروج إيران من “المستنقع السوري” يتطلّب عدّة خطوات استراتيجية شاملة، نظراً للتعقيدات العسكرية والسياسية التي تحيط بتدخّلها في سوريا. وإيران ستعيد عاجلاً أم آجلاً تقويم استراتيجياتها في المنطقة لأنّ مصالحها ونفوذها تراجعت على أكثر من جبهة. الطريق نحو ذلك تمرّ عبر تقليص تدخّلها في الكثير من الملفّات الإقليمية ومراجعة سياساتها في سوريا ولبنان والعراق واليمن، لكن لا مؤشّرات حقيقية بعد إلى أنّ طهران جاهزة لفعل ذلك.

لمتابعة الكاتب على X:

@Profsamirsalha

مواضيع ذات صلة

تحرّك الرّياض: سقف الطّائف… وقَرْن الأقوال بالأفعال

في لبنان مثل سوريا، لا يحتمل الوضع التأخير في الدعم العربي، ولا سيما السعودي، لانتخاب الرئيس في جلسة 9 كانون الثاني. في دمشق لا مجال…

الياس البيسري: قطر ترشّح.. والسعودية “عالسمع”؟

المعتاد في مواصفات المرشّح لرئاسة الجمهورية ثمّ المنتخَب، أن يكون من اللاعبين على المسرح لا ممّن وراء الستارة. ذلك شأن نوّاب ووزراء ورؤساء أحزاب وقادة…

الشّرع: البحث عن نقطة توازن

إذا ما يضرب أحمد الشرع، قائد الإدارة الحالية في سوريا، موعداً بعد أربع سنوات لإجراء انتخابات في البلاد، فإنّه في الوقت عينه يسعى إلى تلمّس…

سوريا: إسرائيل أخرجت إيران.. فحضرت تركيا

أوجد سقوط نظام بشار الأسد واقعاً استراتيجيّاً جديداً في الشرق الأوسط. خرجت إيران من سوريا وضعف دور روسيا، فدخلت تركيا عبر حلفائها السوريين وملأت الفراغ،…