سوريا ولبنان: الإقامة بين الأقليّات والأكثريّات

مدة القراءة 6 د

لم يترك إعلام الممانعة حيّزاً إلّا وملأه بسِيَر الأكثريّات والأقلّيات، منذ أن حرّر السيّد أحمد الشرع (الجولاني) سوريا من طغاتها. كانت سرديّات الممانعة تخلص إلى “التهديد” بحكم الأكثرية التي كانت محكومة من حكم بعثيّ أقلّوي، منذ عام 1962 حتى نهار الثامن من كانون الأوّل 2024، عندما تأكّدت مغادرة من كان يرأس سوريا: بشار حافظ الأسد.

 

زادت من وطأة سيرة الممانعة زيارة رئيس “الحزب التقدّمي الاشتراكي” السابق وليد جنبلاط لدمشق، يرافقه وفدان سياسي ودينيّ درزيّ. سرديّة كهذه تجعل الإقامة حتميّة عند الأقلّية أو الأكثرية لغياب فكرة الدولة الوطنية. اقترن هذا الحديث مع هواجس لبنانية بين الأقلّية والأكثريّة أيضاً، إثر تفوّق إسرائيل على الحزب، بعدما أصلت الأولى حرباً ضروساً ضدّ الثاني، الذي دخلها من بوّابة إسناد الفلسطينيين في حرب غزة.

بحسب الإعلام الممانع ومفوّهيه، فإنّ سوريا كما لبنان يحتاجان إلى مراعاة الأقلّيات وكبح استطراد الأكثريات، التي لم تتفوّه بكلمة عن طبيعة الحكم في دمشق، والتي هي واضحة في بيروت. حسناً، لهذا الإعلام ومفوّهيه وحدة قياس يُنسب إليها ويُقاس عليها الضعف والقوّة. لكنّها لا تبدو دقيقة القياس.

لم يترك إعلام الممانعة حيّزاً إلّا وملأه بسِيَر الأكثريّات والأقلّيات، منذ أن حرّر السيّد أحمد الشرع (الجولاني) سوريا من طغاتها

البحث في قوّة الأكثرية ومصادرها قد لا يكون مُفيداً لهذا الإعلام ولا للرهط الذي يقف خلفه، إلا إذا كان مقياس القوّة يتعلّق بالكثرة العدديّة. في هذا المجال لا يتفوّق على هذا الإعلام غير مفوّهيه أنفسهم، الذين حكموا بامتيازات أقلّويّة على امتداد طول المنطقة وعرضها. أمّا إذا كنّا نقيس القوّة والضعف بمقاييس سياسيّة صرف، فينبغي أن نحذّر من فخاخ هذا الإعلام وقادته أنفسهم.

الضّعف والقوّة في نصابهما السّياسيّ

على أيّ حال، ينبغي أن نستعيد مقولة الضعف والقوّة من حسابات الأقلّية والأكثرية لنضعها في نصابها السياسي عند الدولة الوطنية ومعيارها القائم على مبدأ المواطنة حصراً. عمليّاً، يجهر كثيرون من السوريين أنّ المعادلة في سوريا تغيّرت ولم تعد قوّة سوريا في “الردّ بالزمان والمكان الصحيحين”. صحيح، تلك المقولة عفا عليها الزمن، وأثبتت الأيّام أنّها لم تكن دقيقة على أيّ وجه من الوجوه.

كانت القوّة المُدّعاة والمزعومة من حكم أقلّوي تضعنا أمام لغز يصعب حلّ إشكاليّاته: ما السرّ الذي يجعل من سوريا منيعة وقويّة في مواجهة إسرائيل؟ بل من أين يستمدّ حاكم سوريا الأقلّوي قوّته وعلوّ صوت نظامه إذا لم يكن من صداقاته وانتمائه إلى منظومة المصالح العربية؟ وهذا ممّا كان يُجاهر به كلّ الوقت.

البحث في قوّة الأكثرية ومصادرها قد لا يكون مُفيداً لهذا الإعلام ولا للرهط الذي يقف خلفه، إلا إذا كان مقياس القوّة يتعلّق بالكثرة العدديّة

تطرح مسألة سلميّة الثورة السورية معادلات شائكة على الثوّار أنفسهم. كيف كان يمكن إسقاط نظام لا يملك غير العنف والقسوة سبباً لبقائه وإدامة وجوده؟ وهذا السؤال مشروع والأجوبة عليه تلهج بضرورة قيام نظام يُحاسب من كانوا أركان النظام السابق. مع ذلك، ما زال السوريون نخبةً وثوّاراً يرفضون الانجرار إلى الإقامة بين دولتَي الأقلّية والأكثرية، لأنّ في ذلك تسييد منطق العين بالعين والسنّ بالسنّ. ذلك أنّهم في محاذرتهم هذه، وعلى الرغم من كلّ الصعاب والتضحيات والآلام، إنّما يريدون أن يضمنوا مستقبل بلادهم وسلامة كلّ السوريين. وفي هذا معنى الإصرار على الانتماء إلى عالم مضيء.

الدّولة الوطنيّة نقيض حكم البعث

في مثل وضع السوريين المديد تحت حكم الأسد الأقلّوي، يصبح الغضب والقوّة وحدة قياس لمعنى زوال النظام وانتصار الثورة. ومن حقّ السوريين أن يغضبوا كثيراً من نظامهم السابق. ومن حقّهم أيضاً أن يطالبوا بالعدل والانتقام. لكنّ الثورة السورية تريد أن تكون بديلاً حقيقياً للنظام الأسدي الذي كان يحكم بالحديد والنار والمعتقلات.

هكذا جاز للثورة السورية أن تثبت لنفسها وللسوريين وللعالم برمّته أنّها ثورة من غير الطينة التي تكوّنت منها الثورات المزعومة في الربيع العربي وبعده، وأنّها ثورة من غير الطينة التي أتاحت في خمسينيات القرن الماضي لضبّاط في دائرتَي الأمن والعسكر أن يحكموا. كما جاز لها أن تعلن بأنّها ثورة تريد الانتصار للدولة الوطنية بما هي دولة قانون ومؤسّسات، وهي تُعاكس دولة البعث التي فرّغت مضمون الدولة لمصلحة الحديد والنار.

لو حدث للثورة السورية أن انزلقت إلى حوار الأقلّية والأكثرية، الذي يحثّ على ولوغه العنف، فقد تغامر في أن تفقد كلّ أسباب منعتها ووحدتها، وتتحوّل إلى شبيهة للنظام الأسديّ، الذي اعترضت على جوره وانتصرت.

في مثل وضع السوريين المديد تحت حكم الأسد الأقلّوي، يصبح الغضب والقوّة وحدة قياس لمعنى زوال النظام وانتصار الثورة

جدال الأقلّيّة والأكثريّة

بين تعريفَي الأقلّية والأكثرية فارقان جوهريان، وهما فارقان يتّصلان اتّصالاً مباشراً بمعنى الصلاحيّة لإقامة دولة. الأقلّية لا تتردّد في بعث مفردة “العنصرية”. أمّا الأكثرية فتنحاز تلقائياً إلى تعبير “الدولة”. في الحالين، يظهر جليّاً كيف يرى المصطلحان مستقبل الدولة السورية. الأقليّة لا تتردّد في صناعة أعداء داخليين. أمّا الأكثرية فلا تتردّد من ناحيتها في استعجال قيام الدولة البديلة لتلك التي صنعها البعث وآل الأسد.

أدّت الأقلّية غرضها المطلوب منها بالكامل، حيث إنّها وضعت سوريا كلّها على إيقاع خطبها، وجعلت البلاد قلقة في انتظار الخطوة التالية. ولم يسأل جمهورها: لماذا يقلق البلد من خطواتها التالية ولا يقلق من أكثريّته الصامتة والمسحوقة؟ وربّما لم يلاحظوا أنّه تحت عناوين التهديد الإسرائيلي لم يقمع الأسدان، وثالثهما الفارّ، ماهر، غير أهل سوريا وأبنائها.

ربّما يجدر بالأكثرية السورية أن تتفكّر مليّاً في معنى الدولة الوطنية، وفي معنى خوف الأقلّية من “فتنة” تتحضّر الأخيرة لها. مثل هذا التصوّر لدرء الفتنة ليس تصوّراً معتدّاً بنفسه فحسب، بل هو أفضل وصفة لجعل الفتنة تحمل عنواناً أثيراً لدى قلوب الأقلّية السورية الخائفة: مستضعفون ومستأسدون.

إقرأ أيضاً: دمشق الحزينة حتّى الموت

الإجابة الممكنة على معادلة الأقلّية والأكثرية التي بعثها رهط من موالي آل الأسد، ورافقه فيها الإعلام الممانع، هو في الدولة الوطنية، التي لا بدّ أن تبتعد عن منطق القبيلة والاستبداد، ولا يمنعها غير وحدانية التسلّط بلغة ابن خلدون. والدولة الوطنية هي القادرة وحدها على مواجهة التطرّف، مع ضبط إيقاع الحفاظ على الهويّة، أكانت دينية أم قومية، شرط تفعيل دولة القانون من خلال معايير المواطنة والشفافيّة والتعايش السلمي بين المواطنين والتنمية.

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

تحرّك الرّياض: سقف الطّائف… وقَرْن الأقوال بالأفعال

في لبنان مثل سوريا، لا يحتمل الوضع التأخير في الدعم العربي، ولا سيما السعودي، لانتخاب الرئيس في جلسة 9 كانون الثاني. في دمشق لا مجال…

الياس البيسري: قطر ترشّح.. والسعودية “عالسمع”؟

المعتاد في مواصفات المرشّح لرئاسة الجمهورية ثمّ المنتخَب، أن يكون من اللاعبين على المسرح لا ممّن وراء الستارة. ذلك شأن نوّاب ووزراء ورؤساء أحزاب وقادة…

الشّرع: البحث عن نقطة توازن

إذا ما يضرب أحمد الشرع، قائد الإدارة الحالية في سوريا، موعداً بعد أربع سنوات لإجراء انتخابات في البلاد، فإنّه في الوقت عينه يسعى إلى تلمّس…

سوريا: إسرائيل أخرجت إيران.. فحضرت تركيا

أوجد سقوط نظام بشار الأسد واقعاً استراتيجيّاً جديداً في الشرق الأوسط. خرجت إيران من سوريا وضعف دور روسيا، فدخلت تركيا عبر حلفائها السوريين وملأت الفراغ،…